إن قلتَ: سلَّمنا بأنّ توثيقات أصحاب الكتب المعوّل عليها اليوم حسّية أو محتملة الحسّية، ولكنّهم لم يذكروا لنا سند هذه التوثيقات وصولاً إلى من عاصر الرواة لنعرف إن كان بالإمكان الأخذ بتوثيقات هؤلاء أو لا. وعليه، فهذه التوثيقات وإن سلمت من إشكال الحدسية، إلاّ أنّها لم تسلم من إشكال كونها مرسلة، فيكون شأنها شأن الأخبار المرسلة، فكما لم نقبل تلك لا نقبل هذه.
قلتُ: هذا الإشكال وإن كان من الإشكالات التي استعصت على البعض، إلا أنّه يمكن الإجابة عليه بالتالي:
ذكرنا سابقاً، أنّ جملة من التوثيقات التي بين أيدينا اليوم قد اعتمد فيها أصحابها على كتب التوثيق والتضعيف في زمانهم، التي بلغ عددها من زمن الحسن بن محبوب إلى زمن الشيخ الطوسي ما يقارب المائة ونيّف، وطرقهم إليها طرق صحيحة، وأصحاب هذه الكتب لا يخلو حالهم إمّا هم معاصرون للرواة أو لمشايخهم.
إن قلتَ: هذا الجواب ينفي إشكال الإرسال بالنسبة إلى جملة من التوثيقات، ولكن يبقى الإشكال قائماً بالنسبة إلى جملة أخرى من التوثيقات التي أخذت من كابر عن كابر من دون ذكرهم وتوثيقهم.
قلتُ: يمكن الإجابة عن هذا الإشكال بعدّة أجوبة:
أوّلاً: إنّه لمّا كانت التوثيقات تصل إلى النجاشي والطوسي بالتواتر، استغنينا عن متابعة حالهم، وبالتالي لا يكون الإرسال مضراً حينئذٍ. وفيه: أنّ هذا الكلام تامّ على نحو الموجبة الجزئية؛ أي بالنسبة إلى بعض الرواة المعروفين بالعدالة والوثاقة ونحو ذلك عند الأعلام المتقدمين، وأمّا بالنسبة إلى غير المعروفين، فلا يتمّ ذلك، إذْ لو كان توثيقهم على حدّ التواتر لما اختُلف فيهم.
ثانياً: إنّ الرجاليّين إذا أرسلوا في توثيقاتهم، فإنّما يرسلون بعد أن يكونوا قد سمعوا التوثيق من جماعات كثيرة، لذلك فليس إرسالهم على حدّ الإرسال في الرواية. وفيه: إن كان سماعهم من جماعات كثيرة أوصلهم إلى حدّ التواتر أو الاطمئنان، ففيه ما ذكرنا في الجواب السابق. وإن أوصلهم إلى ما دون الاطمئنان من الظنّ والشكّ، فهما لا يغنيا من الحق شيئاً.
ثالثاً: إنّه لمّا كانت الغاية من توثيق الرجاليّين هي صحّة الاعتماد عليهم في توثيقاتهم، فلا بدّ أن يكونوا قد اعتمدوا في توثيقاتهم على الثقات الذين يصحّ النقل عنهم، وإلاّ وجب أن ينبِّهوا حتى لا يلزم التغرير البعيد عن أمثالهم من الأجلاء.
وإن شئت فقل: إنّ نقل التوثيق عن الضعيف لا ينبغي صدوره عن أصاغر الطلبة فضلاً عن الأجلاء الأكابر، وذلك لأنّ الغرض من التوثيق هو إثبات وثاقة الراوي وعدم كذبه في نقله حتى تصحّ رواياته عند الأعلام الذين هم غير عالمين بحاله.
وعليه، يكون توثيق الراوي بنقل الضعيف أو مجهول الحال نقضاً للغرض.
ولعلّ هذا الجواب هو أفضل الأجوبة، خصوصاً إذا ضممنا له ما تقدّم، ولا سيّما مع الالتفات إلى أنّ علم الرجال غير مبنيّ على المداقة العلمية. والله العالم.
الفصل الثالث: عبارات التضعيف والتوثيق
أقول: إنّه بمراجعتنا لكتب الرجال، نجد الكثير من العبارات التي قد يُختلف في إفادتها للتوثيق، لذا وجب ذكرها وبيان حالها ومفادها:
الأولى: شيخ الإجازة:
هذه العبارة تعني أنّ صاحبها ممّن يجيز غيره في نقل رواية أصل ما، وذلك بعد أن قرأه على المجاز، أو قرأه المجاز عليه، حيث تسمّى الإجازة حينئذ (إجازة بالقراءة).
وإمّا بمناولة الأصل للمجاز، وتسمّى (إجازة بالمناولة)، وهي أقلّ شأناً من الأولى.
وقد ذهب البعض إلى أنّ التعبير عن أحدهم بأنّه من مشايخ الإجازة كافٍ في توثيقه، إذ من يجيز في نقل الروايات أحقّ بالتوثيق.
وفيه: أنّ الغاية من مشيخة الإجازة في أصل ما هي تصحيح الحكاية عنه، وهذا لا يفيد التوثيق.
نعم، إن كان شيخ الإجازة من المعاريف، فهذا يفيد توثيقه بهذه القرينة لا بمجرّد كونه شيخ إجازة، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ويؤيّد هذا الكلام أو يدلّ عليه تضعيف بعض مشايخ الإجازة مثل (الحسن بن محمد بن يحيى) و(الحسين بن حمدان الخصيبيّ (الخصينيّ) (الخصيني)).
حيث قال النجاشي رحمه الله في ترجمة الأوّل: «الحسن بن محمد بن يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبيد الله بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام، أبو محمد، المعروف بابن أخي طاهر، روى عن جده يحيى بن الحسن وغيره، وروى عن المجاهيل أحاديث منكرة رأيت أصحابنا يضعّفونه. له كتاب المثالب، وكتاب الغيبة وذكر القائم عليه السلام»[1].
وقال الشيخ الطوسي رحمه الله في ترجمة الحسن بن محمد بن يحيى بن الحسن بن جعفر: «روى عنه التلعكبري، وسمع منه سنة سبع وعشرين وثلاثمائة إلى سنة خمس وخمسين، يكنّى أبا محمد، وله منه إجازة»[2].
ويذكر البهبهاني رحمه الله في ترجمته أيضاً: «هو أبو محمد العلوي الذي يروي عنه الصدوق مترضياً ومترحماً، وقد أكثر من الرواية هكذا، وله منه إجازة... وكيفية إجازته أنّه أجاز له ما يصحّ عنده من حديثه»[3].
وقال النجاشي رحمه الله في ترجمة الثاني: «الخصيبي الجنبلاني أبو عبد الله كان فاسد المذهب. له كتب، منها: كتاب الإخوان، كتاب المسائل، كتاب تاريخ الأئمة، كتاب الرسالة، تخليط»[4] وفي التعليقة أنّه من مشايخ الإجازة.
الثانية: صاحب المعصوم عليه السلام:
والإنصاف: أنّ هذه العبارة لا تدلّ على التوثيق أبداً، ذلك أنّ صحبة المعصومين عليهم السلام أعمّ بكثير من الوثاقة، كيف وقد ثبت ورود الكثير من المنافقين عليهم ومصاحبتهم لهم عليهم السلام.
الثالثة: وكيل الإمام عليه السلام:
إدعى بعضهم أنّ الوكالة عن الإمام عليه السلام لازمة لوثاقة الوكيل، إذ لو لم يكن ثقة لما أوكله الإمام عليه السلام.
وفيه: أنّ هذا الكلام على إطلاقه في غير محلّه، فإنّه يتمّ في التوكيل بالأمور الدينية، ولا يتمّ في الأمور الدنيوية التي قد تستدعي أمانة الوكيل فحسب دون وثاقته. والله العالم.
[3] تعليقة على منهج المقال، ص133.
|