• الموقع : موقع سماحة اية الله الشيخ حسن الرميتي .
        • القسم الرئيسي : المكاسب المحرّمة .
              • القسم الفرعي : التكسب الحرام وأقسامه / المكاسب (أرشيف صوتي) .
                    • الموضوع : الدرس 58 _ التكسّب الحرام وأقسامه (53). أحدها: أحدها: ما حرم لعينه: السحر. .

الدرس 58 _ التكسّب الحرام وأقسامه (53). أحدها: أحدها: ما حرم لعينه: السحر.

الثَّالثة: ما في عُيُون الأخبار عن محمَّد بن القاسم المفسِّر، عن يوسف بن محمَّد بن زياد وعلي بن محمَّد بن سيَّار، عن أبويهما، عن الحسن بن عليِّ العسكريِّ عن آبائه (عليهم السَّلام) -في حديث- قال: في قوله تعالى: ﴿ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَ مارُوتَ﴾‌: وَكَانَ بَعْدَ نُوحٍ (عليه السَّلام) قَدْ كَثُرَ السَّحَرَةُ وَالْمُمَوِّهُونَ فَبَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَلَكَيْنِ إِلَى نَبِيِّ ذَلِكَ الزَّمَانِ بِذِكْرِ مَا تَسحر بِهِ السَّحَرَةُ، وَذِكْرِ مَا يُبْطِلُ بِهِ سِحْرَهُمْ، وَيَرُدُّ بِهِ كَيْدَهُمْ، فَتَلَقَّاهُ النَّبِيُّ(عليه السَّلام) عَنِ الْمَلَكَيْنِ، وَأَدَّاهُ إِلَى عِبَادِ اللَّهِ بِأَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَقِفُوا بِهِ عَلَى السِّحْرِ وَأَنْ يُبْطِلُوهُ، وَنَهَاهُمْ أَنْ يَسْحَرُوا بِهِ النَّاسَ ...إلخ.[1] وهي دالَّة على جواز دفع السِّحر بالسِّحر، إلَّا أنَّها ضعيفة بجهالة أكثر من شخص.

الرَّابعة: ما في عيون الأخبار عن تميم بن عبد الله القرشي عن أبيه عن أحمد بن عليِّ الأنصاري عن عليِّ بن الجهم عن الرِّضا (عليه السَّلام) -في حديث-: وَأَمَّا هَارُوتُ وَمَارُوتُ فَكَانَا مَلَكَيْنِ، عَلَّمَا النَّاسَ السِّحْرَ؛ لِيَحْتَرِزُوا عَنْ سِحْرِ السَّحَرَةِ، وَيُبْطِلُوا بِهِ كَيْدَهُمْ، وَمَا عَلَّمَا أَحَداً مِنْ ذَلِكَ شَيْئاً إِلَّا قَالا لَهُ:‌ إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ...إلخ.[2] وهي أيضاً دالَّة على جواز دفع السِّحر بالسِّحر، إلَّا أنَّها ضعيفة بجهالة أكثر من شخص.

والخلاصة إلى هنا: أنَّه يجوز دفع السِّحر بالسِّحر، وإن أمكن حلُّه أيضاً بغير السِّحر من القرآن الكريم، والذِّكْر، والتَّعَويذ.

الأمر الثَّالث: في حقيقة السِّحر، وقد عُرِّف بتعاريف متعدِّدة.
فعن بعض أهل اللُّغة: أنَّه ما لَطُف مَأْخَذه ودقَّ، وعن آخر: صَرْفُ الشَّيءِ عَنْ وَجْهِه، وعن ثالث: إخراج الباطل بصورة الحقِّ.
وعن العلَّامة (رحمه الله) في القواعد: كلام يتكلَّم به أو يكتبه أو رقية، أو يعمل شيئاً يؤثِّر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله، من غير مباشرة. (انتهى كلامه).
وقد عرفت ما عرفه المصنِّف (رحمه الله) هنا.
وعن بعض الأعلام: أنَّ السِّحر عَمَل يستفاد منه ملكة نفسانيَّة يُقتدر بها على أفعال غريبة وأسباب خفية. (انتهى كلامه).
وعن فخر المحقِّقِين في الإيضاح: اِستحداث الخوارق بمجرد التأثيرات النفسانيَّة، أو بالاستعانة بالفلكيَّات فقط، أو على سبيل تمزيج القوى السَّماويَّة بالقوى الأرضية، أو على سبيل الاستعانة بالأرواح السَّاذجة، وقد خصَّ أهل المعقول الأوَّل باسم السِّحر، والثاني بدعوة الكواكب، والثالث بالطلسمات، والرَّابع بالعزائم، وكلُّ ذلك محرَّم في شريعة الإسلام. (انتهى كلامه).
وذكر صاحب الجواهر (رحمه الله): هو علم عظيم طويل الذَّيل، كثير الشُّعَب، لا يعرفه إلَّا الماهرون فيه، وليس مطلق الأمر الغريب سِحْراً، فإنَّ كثيراً من العلوم كعِلم الهيئة والجفر والترارجيَّة وهو أسرار الجفر وغيرها، يظهر من العالِم بها بعض الآثار العجيبة الغريبة، ويكفيك ما يصنعه الإفرنج في هذه الأزمنة من الغرائب، وليست هي من السِّحر الحرام قطعاً. (انتهى كلامه).

ثمَّ إنَّه قبل أن نذكر ما هو الإنصاف في تعريفه ينبغي أن نشير إلى أمر مهمٍّ، وهو أنَّه قد وقع الخلاف بين الأعلام في أنَّ السِّحْر هل له حقيقة أو هو تخيُّل؟
قال في المسالك: الأكثر على أنَّه لا حقيقة له، بل هو تخيُّل -ثمَّ قال:- و يشكل بوجدان أثره في كثير من النَّاس على الحقيقة، والتأثُّر بالوَهَم إنّما يتمُّ لو سبق للقابل عِلْم بوقوعه، ونحن نجد أثره فيمَنْ لا يشعر به أصلاً حتَّى يضرُّ به. (انتهى كلامه).
وقال المصنِّف (رحمه الله) هنا: والأكثر على أنّه لا حقيقة له بل هو تخيُّل، وقيل: أكثره تخاييل، وبعضه حقيقيٌّ؛ لأنَّه تعالى وَصَفه بالعظمة في سَحَرة فرعون. وفيه: أنَّ وصفه بالعظمة في قوله تعالى: ﴿قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾ لا يدلُّ على كونه حقيقةً، بل ظاهر الآية الشَّريفة خلاف ذلك.

ومن هنا قال الطبرسي في مجمع البيان: فلمَّا ألقى السَّحرة ما عندهم من السِّحر، احتالوا في تحريك العُصِيّ والحبال، بما جعلوا فيها من الزِّئبق، حتَّى تحركت بحرارة الشَّمس، وغير ذلك من الحِيَل، وأنواع التَّمويه، والتَّلبيس، وخُيِّل إلى النَّاس أنَّها تتحرك على ما تتحرك الحيَّة، وإنَّما سحروا أعين النَّاس؛ لأنَّهم أَرَوْهم شيئاً لم يعرفوا حقيقته، وخفي ذلك عليهم، لبُعْده منهم، فإنَّهم لم يخلوا النَّاس يدخلون فيما بينهم، وفي هذا دلالة على أنَّ السِّحر لا حقيقة له، لأنَّها لو صارت حيَّات حقيقيَّةً لم يقل الله سبحانه ﴿سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ﴾، بل كان يقول: فلمَّا ألقوا صارت حيَّات. (انتهى كلامه).

وقال الرَّازي أيضاً -وهو من علماء العامة-: واحتجَّ به القائلون بأنَّ السِّحر محض التَّمويه، قال القاضي: لو كان السِّحر حقّاً، لكانوا قد سحروا قلوبهم لا أعينهم؟ فثبت أنَّ المراد أنَّهم تخيَّلوا أحوالاً عجيبةً، مع أنَّ الأمر في الحقيقة ما كان على وِفْق ما تخيَّلوه. (انتهى كلامه).

أقول: ما ذُكِر للسِّحر من تعاريف فكلُّها تعاريف لفظيَّةً لا ينبغي الإشكال عليها بالنقض عَكْساً وطَرْداً، وإنَّما الغَرَض منها تقريب المعنى إلى الذِّهن بلفظ آخر، كما في قولك: السُّعدانة نَبْت، وإلَّا فلا يوجد تعريف له بالحدِّ التَّام. والمرجع في مثل هذه الأحوال عند اختلاف أهل اللغة في تعريفه هو العرف العام.

والذي يظهر من العرف ومن التَّتبع في موارد الاستعمال: أنَّه عمل يوجب صَرْف الشَّيء عن وجهه على سبيل الخُدْعة والتَّمويه بسبب أمر خفيٍّ غير متداول عادةً، بحيث تترتَّب عليه آثار غريبة وأحوال عجيبة، بحيث تشبه الكرامات، وتوهم أنَّها من المعجزات، وإلَّا فهو في الواقع مجرد خيال، وتلبيس الباطل بلباس الحقِّ، ويتخيَّل النَّاس أنَّه يتصرَّف في الأمور التكوينيَّة ويغيُّرها عن حقيقتها إلى حقيقة أخرى، كما حصل مع سَحَرة فرعون حين ألقوا حبالهم، قال تعالى: ﴿فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ﴾.

والخلاصة: أنَّ السِّحر أمر وهميٌّ وخياليٌّ، لا أنَّ أكثره خياليٌّ وبعضه حقيقي.

ولا ينافي ما ذكرناه من ترتُّبِ أمر واقعي عليه، فإنَّ الأمور الخياليَّة قد يترتَّب عليها أمور واقعيَّة.

سندرج بقية أبحاث السِّحر -التي لم يتعرض لها سماحة الأستاذ في المحاضرات الصوتية بسبب بعض الظروف التي كانت تمرّ بها البلاد من كورونا وغيرها- في نفس هذا الدرس.

ولا ينافي ما ذكرناه من ترتُّبِ أمر واقعي عليه، فإنَّ الأمور الخياليَّة قد يترتَّب عليها أمور واقعيَّة.

فإنَّ السَّاحر قد يظهر للمسحور شيئاً مخيفاً فيتأثَّر المسحور بهذا الشَّيء، ويصبح مجنوناً أو ما أشبه ذلك، أو أنَّه يريه بحراً فيه سفينة جارية، فيحاول المسحور أن يركبها، فيقع من شاهقٍ فيموت.

وعليه، فالجنون والموت، وإن كانا من الأمور الواقعيَّة، إلاَّ أنَّهما قد يترتبان على الأمر الخيالي كالسحر.

وممَّا يؤكِّد ما ذكرناه من كونه أمراً خيالياً لا يغيِّر الحقائق ولا يبدلها: ما ورد في الاحتجاج ­ في حديث الزنديق الذي سأل الإمام الصَّادق (عليه السلام) ­ «قال: أفيقدر السَّاحر أن يجعل الإنسان بسِحْره في صورة الكلب أو الحِمار أو غير ذلك؟ قال: هو أعجز من ذلك، وأضعف من أن يغيِّر خَلْق الله، إنَّ مَنْ أبطل ما ركَّبه الله وصوَّره وغيَّره فهو شريك الله في خلقه، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً، لو قدر السَّاحر على ما وصفت لدفع عن نفسه الهرَم والآفَّة والأمراض، ولنفى البياض عن رأسه، والفَقْر عن ساحته...»([1])، ولكنَّه ضعيف بالإرسال، كما تقدَّم.

وممَّا ذكرنا يتضح لك الفرق بين السِّحر وبين الشَّعوذة التي سنتكلم عنها ­ إن شاء الله تعالى ­ فإنَّ السِّحر كما عرفت هو أمر خيالي.

وأمَّا الشَّعوذة، فهي أمر حقيقي، وأنَّها عبارة عن الخِفَّة في اليد والسِّرعة في الحركة، بحيث يستطيع أن يشغل أذهان النَّاظرين إليه بأشياءَ، ثمَّ يعمل شيئاً آخر بسرعة شديدة وبحركة خفيفة، فيُظهِر لهم غير ما انتظروه، كأَخْذ الأشياء من موضع ووضعها في موضع آخر بسرعة فائقة، بحيث يحسبها النَّاظر إليها أنَّها انتقلت بنفسها، وفي الواقع كان النَّقْل أمراً حقيقيّاً، ولكنَّ النَّاظر لم يلتفت إلى ذلك.

وعليه، فهي أمر حقيقيّ لا خياليّ.

الأمر الرَّابع: في أقسام السِّحر، وهي ثمانية، فهل هذه الأقسام التي ذكرت كلُّها من السِّحر، أو ليست منه، أو بعضه منه دون البعض الآخر، وما حكمها لو لم تكن من السِّحْر؟

وهذه الأقسام ذكَر بعضها المصنِّف (رحمه الله)، وغيره من الأعلام، ولكنَّ العلاَّمة المجلسيَّ (رحمه الله) في البحار ذكَرها بالتَّفصيل، وأطال في الكلام عنها وعن حُكمِها ونحن نقتصر في كلٍّ منها على ما تيسَّر:

القسم الأوَّل: سِحْرُ الكذَّابين ­ وفي بعض النّسخ الكِلدانين ­ وهم قوم يعبدون الكواكب، ويزعمون أنَّها المدبِّرة لهذا العالم، إلاَّ أنَّهم فرق ثلاث:

الأُولى: زعمت أنَّ الأفلاك والكواكب واجبة الوجود لذاتها، وأنَّها المدبرة لهذا العالم والخالقة له.

والثَّانية: أنَّها مخلوقة، إلاَّ أنَّها قديمة لِقدم العلَّة التَّامَّة المؤثِّرة في وجودها.

والثَّالثة: أنَّها حادثة مخلوقة فعَّالة مختارة فوَّض خالقُها أمرَ العالم إليها.

والسَّاحر عند هذه الفرق مَنْ يعرِف القوى العالية الفعَّالة، بسائطها ومركّباتها، ويعرف ما يليق بالعالم السُّفلي، ويعرف معدَّاتها لِيُعدَّها، وعوائقها لِيرفعها، بحسب الطَّاقة البشريَّة، فيكون متمكِّناً من استحداث ما يخرق العادة.

وفيه: أنَّه لا شبهة في كُفْر هذه الفرق الثلاث، ولكن لا يصدق عليها تعريف السِّحر؛ لأنَّك عرفت أنَّه عبارة عن صَرْف الشَّيء عن وجهه على سبيل الخِدعة والتَّمويه، من دون أن يكون له واقعيَّة، واستحداث الأمور الخارقة للعادة لو حصل بذلك فهو من الأمور الواقعيَّة لا الخياليَّة.

القسم الثَّاني: سِحْر أصحاب الأوهام والنفوس القوية، وهو يكون بتجريد النَّفس عن الشَّواغل البدنيَّة، وعن مخالطة الخَلْق وأمورهم، وبه يحصل تأثيرها في جميع ما تريده من الأشياء، ويقدر بذلك على الإتيان بما هو خارق للعادة.

نعم النُّفوس في ذلك مختلفة، فمنها القوية، وهذه لا تحتاج في التَّأثير بهذا العالم إلى آلة وأداة، ومنها ما لا يكون كذلك فتحتاج إلى تصفية وتجريد.

وربَّما استعانت على ذلك بالرُقى المعلومة ألفاظها، وربَّما استعانت على ذلك أيضاً بالدُّخْنة، كما أشار إلى ذلك المصنِّف (رحمه الله) هنا ­ أي في الدُّروس ­ كما أنَّه أشار بعقاقير الكواكب إلى ما يستعمله بعض هؤلاء الكفرة في تسخير بعض الكواكب السَّيَّارة بدُخْنة بعض العقاقير وقراءة بعض الرُّقى.

وفيه أوَّلاً: أنّه لا إشكال في تأثير بعض النُّفوس في الأمور التكوينيَّة، سواء أكان ذلك بسبب الرِّياضة النَّفسيَّة، أم كرامةً من الله تعالى، كما حصل ذلك لأوليائه المعصومين (عليهم السلام)، وغيرهم ممَّنْ منَّ الله عليهم بذلك، إلاَّ أنَّ ذلك كله ليس من السِّحر، ولا هو محرَّم في حدِّ ذاته، بل هو راجح شرعاً إذا كان حصول ذلك للنَّفس بسبب الأذكار والطَّاعة ﷲ سبحانه وتعالى.

وبالجملة، فقد عرفت أنَّ السِّحر أمر خيالي، وتأثير النَّفس في الأمور التكوينيَّة أمر واقعيّ حقيقيّ.

القسم الثَّالث: الاستعانةُ بالأرواحِ الأرضيَّة، وهي الجنُّ، فإنَّ اتِّصال النُّفوس الناطقة بها أسهل من اتِّصالها بالأرواح السَّماويَّة.

ومهما يكن، فإنَّ الاتِّصال بالأرواح الأرضيَّة يحصل بأعمال سهلة قليلة من الرُّقى والدُّخن والتَّجريد، وهذا النَّوع هو المسمَّى بالعزائم، وعمل تسخير الجنِّ.

ثمَّ لا يخفى أنَّ بعض الفلاسفة أنكر وجود الجنِّ، وقال به الأكابر منهم، وهي في نفسها مختلفة، فمنهم خَيِّرة، وهم مؤمنو الجنِّ، ومنهم شرّيرة، وهم كفَّار الجنِّ وشياطينهم.

وفيه: أنَّ تعريف السِّحر لا ينطبق على هذا القسم، كما أنَّه لا دليل على حرمة هذا العمل في حدِّ ذاته، إلاَّ إذا ترتَّب عليه أمر محرَّم، كإيذاء إنسان والإضرار به، أو كانت المقدِّمات محرَّمة، وإلاَّ فلا يحرم استخدام الجنِّ.

القسم الرَّابع: التَّخيُّلاتُ والأخذ بالعيون التي لا ينكر أغلاطها في رؤية السَّاكن متحرِّكاً وبالعكس، والصَّغير كبيراً وبالعكس، فالمشعبذ الحاذق يُظهِرُ عملَ شيءٍ يشغلُ أذهانَ النَّاظرين به، ويأخذُ عيونَهم إليه حتَّى إذا اطمأنَّ باستغراقِ نظرهم إليه عمل شيئاً آخر بسرعةٍ شديدةٍ، وبذلك يحصل عند النَّاظر أمر عجيب، وسببه الاشتغالُ بما أظهره أوَّلاً، والسِّرعةُ المزبورة، وهذا هو المراد من قولهم: إنَّ المشعبذ يأخذُ بالعيون؛ لأنَّه في الحقيقة يأخذ العيون إلى غير الجهة المقصودة.

وفيه: أنَّ هذا القِسْمَ ينطبقُ عليه عنوان الشَّعوذة التي سنذكرها ­ إن شاء الله تعالى ­ وهي ليست مِنَ السِّحر؛ لأنَّها أمر حقيقيٌّ وواقعيٌّ؛ إذ ليست هي إلاَّ الحركة السَّريعة في الأعضاء.

وأمَّا حديثُ الزِّنديقِ المذكور في الاحتجاج، والذي ذَكَرْنا بعض مقاطعه سابقاً، حيث قال (عليه السلام): «إنَّ السِّحر على وجوهٍ شتَّى ­ إلى أن قال: ­ ونوع منه آخر خَطْفة وسِرْعة ومَخَارِيق وخفَّة...»([2]) فيدل على أن هذا القسم هو من السحر.

وفيه أوَّلاً: أنَّه ضعيف بالإرسال، كما تقدَّم.

وثانياً: أنَّ إطلاق السِّحر عليه على سبيل المجاز والعناية، وسيأتي ­ إن شاء الله تعالى ­ أنَّ الأدلَّة التي ذكرت على حرمة الشَّعوذة ليست تامَّةً، إلاَّ إذا اقترنت بعناوين محرَّمة.

القِسْم الخامس: هو عبارة عن الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب الآلات على النِّسَب الهندسيَّة وغيرها، مثل تصوير فارسَيْن يقتل أحدهما الآخر، وتصوير فارس على فرس في يده بُوْق، كلَّما مضت ساعة من النَّهار ضرب البُوْق من غير أن يمسَّه أحد، ومنها الصُّوَر التي تصوِّرها الرُّوم وأهلُ الهِند حتَّى لا يفرِّق النَّاظر بينها وبين الإنسان، فيصورونها ضاحكةً وباكيةً، وحتَّى لا يفرَّق فيها بين ضحك السُّرور وضحك الخجل وضحك الشّامت.

بل قيل: كان سِحْر سَحَرة فرعون من هذا الباب، كما أنَّه قيل: إنَّ من هذا الباب عِلْم جَرِّ الأثقال بآلةٍ خفيفةٍ.

وفيه: أنَّ هذا القِسْم ليس من السِّحر في شيءٍ؛ لأنَّ الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب الآلات، بحيث يصنع منها الطائرات، وغيرها من السَّيَّارات وأدوات الثِّقْل، هي من الأمور الحقيقيَّة الواقعيَّة، وهي في حدِّ ذاتها ليست من المحرَّمات، إلاَّ إذا انطبق عليها عنوان محرَّم.

وأمَّا كون سِحْر سَحَرة فرعون من هذا القبيل فهو غير ثابت.

القسم السَّادس: الاستعانة بخواص الأدوية المزيلة للعقل والدُّخن المسكرة، فإنَّه لا سبيل إلى إنكار الخواصّ، وكذا عصارة البنج المجعول في الملبّس، فإنَّه لا سبيل إلى إنكاره.

وفيه: أنَّه ليس مِنَ السِّحر في شيءٍ؛ لأنَّه أمر واقعيٌّ وحقيقيٌّ، ولا يمكن لعاقلٍ إنكاره.

وبالجملة، فإنَّ الاستعانة بخواص الأدوية داخلة في عِلْم الطِّبِّ، وهو عنوان راجح عقلاً وشرعاً.

نعم، قد يحرم بعض الأمور؛ لانطباق عنوان محرَّم عليها، وهذا شيء آخر.

القِسْم السَّابع: تعليقُ القلبِ، كما لوِ ادَّعى السَّاحر أنَّه عرف الاسم الأعظم، وأنَّ الجنَّ يطيعونه وينقادون له في أكثر الأمور، فإذا كان السَّامع لذلك ضعيف العقل قليل التَّمييز اعتقد أنَّه حقٌّ وتعلَّق قلبُه بذلك، وحصَل له خوف ورعب حتَّى ضعفت قِواه الحسَّاسة، وتمكَّن السَّاحر بذلك من فِعْل ما يشاء.

وفيه: أنَّ مجرد دعواه أنَّه يعرف الاسم الأعظم، وأنَّ الجنَّ يطيعونه، ونحو ذلك، فهذه ليست من السِّحْر في شيءٍ، بل هي نوع من الإخبار، فإن كان ما يقوله مطابقاً للواقع فيكون صِدْقاً وإلاَّ كان كَذِباً، وأنَّ المراد من السِّحر ما يفعله المدَّعي مِنَ الخوارق للعادة بعد تعلُّق القلب به، فهذا أيضاً ليس من السِّحْر؛ لِما عرفت من أنَّه أمر خيالي لا حقيقة له، وهذه الأفعال التي يأتي بها المدَّعي ­ بناءً على صِدْقه ­ تكون من الأمور الواقعيَّة.

القِسْم الثَّامن: السَّعي بالنَّميمة، كما في رواية الاحتجاج المتقدِّمة، حيث ورد فيها: «وإنَّ مِنْ أكبر السِّحر النَّميمة، يُفرَّق بها بين المتحابِّين، ويُجْلَب العداوة على المتصافِيين، ويسفك بها الدِّماء، ويهدم بها الدُّور، ويكشف بها المستور، والنمَّام أشرُّ مَنْ وَطِئَ الأرضَ بَقَدَمٍ...»([3]).

وفيه أوَّلاً: أنَّ الرِّواية ضعيفة بالإرسال، كما تقدَّم.

وثانياً: أنَّ النَّميمة، وإن كانت من المحرَّمات والمعاصي الكبيرة، إلاَّ أنَّها ليست من السِّحر، وإطلاق السِّحر عليها في الرِّواية هو إطلاق مجازي.

والخلاصة إلى هنا: أنَّ هذه الأقسام التي ذكرت للسِّحْر ليست منه، والله العالم بحقائق أحكامه.

الأمر الخامس: ذكَر بعضُ الأعلام أنَّ التَّسخيرات بأقسامها داخلة في السِّحر على جميع تعاريفه، وقد ذكَر المصنِّف (رحمه الله) هنا أنَّ استخدامَ الملائكةِ والجنِّ من السِّحْر.

ولعلَّ وجه دخوله: تضرُّر المسخِّر بتسخيره.

وقد ذكَر المصنِّف (رحمه الله) أيضاً أنَّ عَمَل السِّيمياء داخل في السِّحر، وهو حرام، والمراد به إحداث خيالات لا وجود لها في الحسِ، تُوجِب تأثيره في شيءٍ آخر.

ولكنَّ الإنصاف: أنَّ هذه التَّسخيرات خارجة عن السِّحر موضوعاً؛ لِما عرفت من أنَّ السِّحر أمر خيالي لا واقعيَّة له، وهذه التَّسخيرات ­ إنْ حصلت ­ فهي ليست أموراً خياليَّة.

وعليه، فإنِ انطبق على شيءٍ منها عنوان محرَّم فَتَحْرُم حينئذٍ؛ لأجل هذا العنوان، لا لكونها سِحْراً، كما إذا كانت مقدِّمات هذه التَّسخيرات محرَّمة، أو كان المسخَّر ­ بالفتح ­ مؤمناً أو مَلَكاً، وكان التَّسخير مؤذياً لهما، وإلاَّ فلا موجب للحرمة، كما لو كان المسخَّر ­ بالفتح ­ من الكفَّار أو الجِنِّ الشِّرير، إذ لا تحرم أذيتهما؛ هذا كلُّه في تسخير الإنس والجنِّ والملائكة.

وأمَّا تسخير الحيوانات، فيجوز مطلقاً، ومن هنا قال المحقِّق الإيرواني (رحمه الله) في حاشيته على مكاسب الشَّيخ (رحمه الله): «فالأمر في تسخير الحيوانات أوضح، فهل يمكن الالتزام بجواز تسخير الحيوانات بالقهر والغلبة والضَّرْب، ومع ذلك لا يجوز تسخيرها بما يوجب دخولها تحت الخِدْمة طوعاً؟!»، وهو جيد، والله العالم بحقائق أحكامه.

قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: ويلحق به الشَّعبذة، وهي الأفعال العجيبة المترتِّبة على سِرْعة اليد بالحركة، فيَلْتَبِس على الحِسِّ. (انتهى كلامه)

(1) أقول: يقع الكلام في أمرين:

الأوَّل: في معنى الشَّعوذة أو الشَّعبذة.

الثَّاني: في حرمتها.

أمَّا الأمر الأوَّل: فالمعروف عند الفقهاء أنَّ الشَّعبذة أو الشَّعوذة هي الحركة السَّريعة التي تترتَّب عليها الأفعال العجيبة، بحيث يخفى على الحسِّ الفرق بين الشَّيء وشبهه؛ لسِرْعة الانتقال منه إلى شبهه.

وهذا التَّعريف لها قريب منه تعريف اللُّغويين، ففي لسان العرب: «الشَّعوذة خِفَّة في اليد، وأَخْذٌ كالسِّحر، يُرى الشَّيء بغير ما عليه أصله في رأي العين ­ إلى أن يقول: ­ والشَّعوذة السِّرعة، وقيل: هي الخِفَّة في كلِّ أمر...»، وفي المصباح المنير للفيوّمي: «شعوذَ: الرجل شعوذة، ومنهم من يقول (شعبذ شعبذة) وهو بالذّال معجمةً وليس من كلام أهل البادية، وهي لعبٌ يرى الإنسان منه ما ليس له حقيقة كالسحر». وكذا غيرهما من أقوال أهل اللُّغة، وعن بعض الأعلام أنَّها من أقسام السِّحر.

ولكنَّ الإنصاف: أنّها ليست من السِّحر، بل هي أمر واقعيٌّ؛ إذ هي عبارة عن فِعْل ما يفعله سائر النَّاس من الأعمال المتعارفة مع سرعة حركة اليد، بحيث يظهر للنَّاس غير ما هو واقع الأمر.

وأمَّا الأمر الثَّاني: فقدِ استدلَّ لحرمة الشَّعوذة ببعض الأدلَّة:

منها: الإجماع، حيث صرَّح العلاَّمة (رحمه الله) في المنتهى بنفي الخلاف عن التحريم، وفي الجواهر: «بالإجماع المحكي والمحصل...».

وفيه: أنَّه ليس إجماعاً تعبديًّا كاشفاً عن قول المعصوم (عليه السلام)، إذ يحتمل استناد التَّحريم إلى الأدلَّة الأخرى المذكورة في المقام.

وعليه، فيكون إجماعاً مدركيًّا أو محتمل المدركية.

مضافاً إلى أنَّ الإجماع المنقول بخبر الواحد ليس حجَّة.

ومنها: ما ذكره صاحب الجواهر (رحمه الله): من أنها «داخلة تحت الباطل والإغراء والتَّدليس واللَّهو وغيرهما...».

وفيه: أنَّ كونها من الباطل محل كلام، وأمَّا الإغراء فالمحرَّم فيه هو الإغراء بالباطل، وكونه إغراءً بالباطل محل كلام.

ومنه يظهر حال التَّدليس، فإنَّه ليس كلُّ تدليس محرَّماً، وكذا الحال في اللَّهو، فإنَّه لا دليل على حرمة مطلق اللَّهو، بل المحرَّم منه بعض الأمور الموجبة لترك الواجب والوقوع في الحرام.

ومنها: أنَّه من أقسام السِّحر، كما يظهر ذلك من رواية الاحتجاج المتقدِّمة، حيث ورد فيها «ونوع منه آخر خَطْفة وسِرْعة ومخاريق وخِفَّة...»([4])، قوله: «ونوع منه»، أي من السِّحر.

وفيه أوَّلاً: أنَّ الرِّواية ضعيفة بالإرسال.

وثانياً: ما قد عرفت من أنَّه ليس داخلاً موضوعاً في السِّحر.

قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: وقيل: الطلسمات كانت معجزات لبعض الأنبياء. (انتهى كلامه)

(1) لم أعثر على قائله بعد التتبع في كلام الأعلام.

قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: أمّا الكيمياء، فيحرم المسمَّى بالتكليس بالزِّئْبق والكِبريت والزَّاج والتَّصدية والشَّعر والبيض والمَرَارة والأدهان، كما يفعله متحشِّفو الجهَّال.

أمَّا سَلْب الجواهر خواصَّها، وإفادتها خواصَّ أخرى، بالدَّواء المسمّى بالإكسير، أو بالنَّار اللينة الموقدة على أصل (اصليّ) الفِلزَّات، أو لمراعاة نسبتها في الحجم والوزن، فهذا ممَّا لا يُعْلم صحَّته، و تجنُّب ذلك كلّه أولى وأحرى. (انتهى كلامه)

(2) لو أنَّ المصنِّف (رحمه الله) أعرض عن ذِكْر الكيمياء وشرحها لكان أنسب بكثير؛ إذ معرفة هذه الأمور، وكذا سَلْب الجواهر خواصَّها، يُرْجَع فيها إلى أهل الاختصاص.

ومن هنا أعرض الأعلام عن ذلك، ولم يتعرَّضوا لها أصلاً.

 

([1]) الوسائل باب 25 من أبواب ما يكتسب به ح5.

([2]) الاحتجاج: ج2، ص82.

([3]) الاحتجاج: ج2، ص82.

([4]) الاحتجاج: ج2، ص82.

 

[1] وسائل الشيعة: باب 25 من أبواب ما يكتسب به، ح4.

[2] وسائل الشيعة: باب 25 من أبواب ما يكتسب به، ح5.


  • المصدر : http://www.al-roumayte.com/subject.php?id=2079
  • تاريخ إضافة الموضوع : الخميس: 27-02-2020
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 12