[في انقلاب النسبة إذا كان التعارض بين أكثر من دليلين]
ومهما يكن، فأحسن ما يمكن أن يقال في الاستدلال على انقلاب النسبة، هو ما ذكره الميرزا النائيني، وحاصله: «أن ملاحظة النسبة بين الأدلة إنما هي لأجل تشخيص كونها متعارضة أو غير متعارضة، وقد تقدم ان تعارض الأدلة إنما هو لأجل حكايتها وكشفها عمّا لا يمكن جعله وتشريعه لتضاد مؤدياتها، فالتعارض بين الأدلة إنما يكون بمقدار كشفها وحكايتها عن المراد النفس الأمري.
ومن الواضح، أن تخصيص العام يقتضي تضييق دائرة كشفه وحكايته، فإن التخصيص يكشف لا محالة عن عدم كون عنوان العام تمام المراد بل المراد هو ما وراء الخاص، لأنّ دليل الخاص لو لم يكشف عن ذلك يلزم لغوية التعبّد به وسقوطه عن الحجّية، فلازم حجّية دليل المخصّص هو سقوط دليل العام عن الحجّية في تمام المدلول وقصر دائرة حجّيته بما عدا المخصّص، وحينئذٍ لا معنى لجعل العام بعمومه طرف النسبة، لأنّ النسبة إنما تلاحظ بين الحجّتين فالذي يكون طرف النسبة هو الباقي تحت العام الذي يكون العام حجّة فيه فلو خصّص أحد العامين من وجه بمخصّص متصل أو منفصل يسقط عن الحجّية في تمام المدلول، ويكون حجّة فيما عدا عنوان الخاص، فتلاحظ النسبة بينه بمقدار حجّيته وبين العام الآخر، ولا محالة تنقلب النسبة من العموم من وجه إلى العموم المطلق». (انتهى حاصل كلام الميرزا النائيني (رحمه الله)).
وفيه ما لا يخفى: فإن تعارض الأدلة وان كان باعتبار كشفها عن المراد الواقعي، ولكن المناط في الحجّية في باب الألفاظ هو على الكاشفية النوعية الحاصلة من الكلام في مقام الإفادة والاستفادة، لا على الكاشفية الفعلية المنافية مع الظن بالخلاف. وعليه: فمع انعقاد الظهور النوعي العمومي للعام وعدم انثلامه بقيام القرينة المنفصلة على التخصيص -باعتبار ان المخصّص المنفصل ممّا لا يصادم أصل ظهور العام في العموم، وإنما يصادم حجّيته بالنسبة إلى مورد الخاص تحكيماً للنص أو الأظهر عليه- فلا يبقى مجال حينئذٍ لدعوى انقلاب النسبة بين العام المخصّص بالمنفصل وبين العام أو الخاص الآخر.
وبالجملة: فإن المخصّص المنفصل يكون رافعاً لحجّية ظهور العام، ولا يكون كاشفاً عن عدم ظهوره من الأوّل ولا رافعاً لظهوره بعد انعقاده.
نعم، لو قلنا إن المخصّص المنفصل كالمتصل يكون صارفاً لأصل الظهور ومزاحماً له أو قلنا إن مناط الحجّية في الظهورات على الكاشفية الفعلية عن المراد الجدّي، لأمكن القول بانقلاب النسبة لارتفاع الظهور النوعي العمومي للعام على الأوّل، وارتفاع كاشفيته الفعلية عن المراد الواقعي على الثاني بقيام القرينة المنفصلة على التخصّيص، ولكن المبنيين مع كونهما باطلين -كما هو واضح في محله- لا يلتزم بهما القائل بالانقلاب.
وأمّا قوله، إن النسبة إنما تلاحظ بين الحجّتين. فيرد عليه: ان محل الكلام إنما هو في الظهور الذي هو موضوع الحجّية، وانه ليس هناك ظهور آخر غير ما يقتضيه العام، أوّلاً من الظهور النوعي. وقد عرفت، ان نتيجة التخصيص بالمنفصل ليست إلّا مزاحمة العام في الحجّية أي قصر حجّية ظهور العام على بعض مدلوله ورفع اليد عن الحجّية للبعض الآخر.
ومن المعلوم، ان قصر حجّيته على بعض مدلوله غير موجب لقلب دلالته النوعية على العموم، ولا لأقوائية دلالته في مقدار حجّيته، لأنّ ظهوره ودلالته في مقدار حجّيته، إنما هو بنفس ظهوره ودلالته على تمام مدلوله قوة وضعفاً، لا بظهور آخر غيره. وعليه: فإذا كان هذا الظهور مساوياً أو أضعف من ظهور غيره، فكيف يقدم ظهوره في مقدار الحجّية بعد التخصيص على ما كان مساوياً أو أقوى ظهوراً منه بصرف أخصّيته؟
نعم، لو كانت الأخصّية حاصلة من قرينة متصلة بالعام لكان لتقديمه على غيره مجال واسع، ولكن الكلام في القرينة المنفصلة التي لا تزاحم ظهور العام، وإنما تزاحم حجّيته.
وعليه فالصحيح: ما ذهب إليه صاحب الكفاية وغيره من الأعلام من القول بعدم انقلاب النسبة، وان النسبة بين الأدلة إنما تكون بما لها من الظهورات والمخصّص المنفصل لا يزاحم الظهور، وإنما يزاحم الحجّية فالتخصيص بالمنفصل لا يوجب انقلاب النسبة، والله العالم.
إذا عرفت ذلك، فلنرجع إلى صور التعارض بين أكثر من دليلين. وقد عرفت أنها كثيرة، ولنقتصر على المهم منها:
الصورة الأولى: ما إذا ورد عام ومخصّصان منفصلان تكون النسبة بين المخصّصين هي التباين. مثاله: كما لو دلّ دليل على وجوب إكرام العلماء، ودلّ دليل آخر على عدم وجوب إكرام الكوفيين من العلماء، ودلّ دليل ثالث على عدم وجوب إكرام البصريين من العلماء، فإن النسبة بين قوله أكرم العلماء، وبين كل من قوله: لا يجب إكرام الكوفيين من العلماء، وقوله: لا يجب إكرام البصريين من العلماء هي العموم المطلق.
وأمّا النسبة بين كل من الخاصّين مع الآخر فهي التباين، ولا إشكال في وجوب تخصيص العام بكل واحد من الخاصّين، بلا فرق بين القول بانقلاب النسبة وبين القول بعدم الانقلاب، إذ لا موضوع للانقلاب هنا، لأنّ نسبة العام إلى كل من الخاصّين هي العموم المطلق على كل تقدير، فسواء لاحظنا العام مع كل من الخاصّين في عرض واحد أم لاحظناه مع أحدهما بعد لحاظه مع الآخر، فهي على الحالتين نسبة العموم المطلق.
والخلاصة: انه يجب تخصيص العام بكلا المخصّصين، ولكن بشرط أن لا يلزم منه التخصيص المستهجن أو بقاء العام بلا مورد.
وأمّا إذا لزم منه التخصيص المستهجن أو بقاء العام بلا مورد، فلا بدّ حينئذٍ من معاملة التعارض بين العام ومجموع الخاصّين، كما إذا قام الدليل على وجوب إكرام العلماء، وقام دليل آخر على عدم وجوب إكرام الفسّاق منهم، وقام دليل ثالث على كراهة إكرام العدول منهم، فإنه لو خصّص قوله: أكرم العلماء بكل من قوله: لا تكرم الفسّاق منهم، وقوله: يكره إكرام العدول منهم، بقي العام بلا مورد.
وعليه، فلا بدّ في مثله من معاملة التعارض بين العام ومجموع الخاصّين، فإن أخذ بالخاصّين ترجيحاً أو تخييراً -على القول بالتخيير- طرح العام ولا تعارض بينهما، وان أخذ بالعام كذلك، فحيث إن المعارض للعام هو مجموع الخاصّين دون الجميع، فيقع التعارض بين الخاصّين بالعرض، فيتعامل معهما معاملة المتعارضين، فإن كان لأحد الخاصّين مزّية على الآخر يؤخذ به، ويخصّص به العام ويطرح الآخر وإلّا فيؤخذ بأحدهما تخييراً -على القول به- ويخصّص به العام ويطرح الآخر. وعلى القول بعدم التخيير فيتساقطان، ويرجع إلى الأصول العملية.
|