[الأمر السادس: فيما يتعلق بالتخيير من بعض الجهات]
ولا يخفى عليك أن الكلام في هذه الجهات مبنيّ على القول المشهور من العمل بالتخيير بأحد الخبرين بعد فقدِ المرجح، وأما على ما ذهبنا إليه من القول بالتساقط بعد فقد المرجح فلا موضوع لهذا البحث حينئذٍ، وعليه فالكلام مبنيّ على مذهب المشهور.
إذا عرفت ذلك فنقول: (ذكرنا الجهة الأولى والثانية في الدرس السابق، فراجع)
الجهة الثالثة: التخيير في المسألة الفقهية والأصولية، هل هو بدوي أم استمراري؟
أما في المسألة الفقهية: فلا إشكال بين الأعلام في كون التخيير استمرارياً، لأنه يكون كالتخيير بين القصر والإتمام في المواطن الأربعة، فللمكلف أن يعمل بمضمون أحد المتعارضين تارة وبمضمون الآخر أخرى.
أما في المسألة الأصولية: فهل التخيير بدوي وليس للمكلف أن يختار في الزمان الثاني غير ما اختاره في ابتداء الأمر، أو أنه استمراري فللمكلف أن يختار في كل زمان في الاخذ بأي الخبرين شاء؟
ذهب صاب الكفاية (رحمه الله) والآغا ضياء الدين العراقي والسيد (محسن) الحكيم وغيرهم: إلى كونه استمرارياً.
وعن جماعة من الأعلام، منهم الميرزا النائيني (رحمه الله): أنه بدوي.
أقول: قد يستدل للقول الثاني -أي كونه بدوياً-: بالأخبار الدالّة على التخيير، فإنها مسوقة لبيان وظيفة المتحيّر في ابتداء الأمر، فلا إطلاق فيها بالنسبة إلى حال المتحيّر بعد الالتزام بأحدهما. وفيه: أنه نمنع كون الأخبار مسوقة لبيان وظيفة المتحيّر في ابتداء الأمر، بل هي ظاهرة في سوقها لبيان حكم المتحيّر من حيث هو، وعليه فإطلاق التخيير كما يقتضي ثبوت التخيير في الزمان الأول كذلك يقتضي ثبوته في الزمان الثاني.
إن قلت: مقتضى إطلاق التخيير المأخوذ موضوعا للوجوب كونه ملحوظا بحو صرف الوجود، ولازمه سقوط حكمه بمجرد حصوله في الزمان الأول. قلت: قد ذكرنا سابقاً أن التخيير ليس بواجب شرعاً، وإنما وجوب التخيير إرشاد إلى حكم العقل بوجوبه مقدمة لتحصيل الحجة الشرعية مع القدرة عليه، فإطلاقه تابع لإطلاق دليل الحجية، فإن كان إطلاقه دالاً على حجيّة ما يختاره المكلف في كل زمان كان اللازم وجوب التخيير كذلك، ولا يختص بالزمان الأول.
والخلاصة: أنّ مقتضى إطلاق أدلة التخيير هو كونه استمرارياً.
وقد يستدلّ أيضا لاستمرارية التخيير في المسألة الأصولية: باستصحاب وجوب التخيير.
وقد أُشكل على الاستصحاب: بأنّ موضوع التخيير هو المتحيّر ولا تحيّر بعد اختيار أحد الخبرين، فالاستصحاب غير جارٍ لارتفاع موضوعه.
وأجيب: بأنّ المراد من المتحيّر: إن كان مَن تعارض عنده الخبران فهو حاصل في جميع الأزمنة. وإن كان بمعنىً آخر لا يجتمع مع اختيار أحدهما فهو ممّا لم يؤخذ في الأدلة موضوعاً للتخيير.
أقول: هذا الجواب وإن كان صحيحاً، إلّا أنه يرد على الاستصحاب ما ذكرناه في أكثر من مناسبة من أنه لا يجري في الشبهات الحكمية، والذي يهوّن الخطب أنّ هذه الأبحاث كلها لا تجري عندنا، لأننا ذهبنا في تعارض الأدلة مع فقد المرجّح إلى التساقط.
نعم، هذه الأبحاث تجري على مشرب القوم حيث ذهبوا إلى التخيير بعد فقد المرجّح، والله العالِم.
[الأمر السابع: في بيان المزيّة التي توجب الجمع بين المتعارضين في الدلالة]
يقع الكلام فيه -الأمر السابع- في بيان المزيّة والخصوصية التي توجب الجمع بين المتعارضين في الدلالة، باعتبار أنّ الجمع بينهما مهما أمكن أولى من الطرح، وعليه ففي كلّ مورد يكون أحدهما قرينة إلى الآخر بحسب متفاهم العرف فهو خارج عن التعارض، لأن التعارض الذي هو موضوع للأحكام الخاصّة من الترجيح والتساقط والتخيير إنما هو فيما يتحيّر العرف في التوفيق بين الظهورين، ومن المعلوم أنّ العرف لا يتحيّر في التوفيق في مثل العام والخاص والمطلق والمقيد ونحوهما من الظهورين المنفصلين الذين يصلح أحدهما المعيّن أن يكون قرينة للتصرّف في الآخر.
ثمّ لا يخفى أن الكلام هنا في المزيّة التي توجب الجمع بين المتعارضين في الدلالة، وأما المزيّة في السند او في جهة الصدور فلا ربط لها في الجمع بين المتعارضين في الدلالة، وبالجملة فقد تكلمنا عنها سابقاً في المرجحات.
هذا وقد ادّعى ابن أبي جمهور الإحسائي في غوالي اللآلي: الاجماع على أنّ الجمع بين الدليلين مهما أمكن أوْلى من الطرح.
والمراد من الإمكان هنا: ليس هو الإمكان العقلي، إذ لا دليل عليه، أضف إلى ذلك أنه لو كان المراد هو الإمكان العقلي لانسدّ باب الترجيح والتخيير بالمرّة، لأنه لا يوجد خبران متعارضان إلا ويمكن الجمع بينهما عقلاً بجهة من الجهات، حتّى في مثل قولك: «يجب إكرام زيد، ويحرم إكرامه» فإنه يمكن الجمع بينهما عقلاً بأن يحمل وجوب إكرامه يوم الجمعة أو في حال كونه عالماً أو عادلاً ونحو ذلك، ويحمل قولك يحرم إكرامه على غير يوم الجمعة أو في حال كونه جاهلاً أو فاسقاً ونحو ذلك، وعليه فالمراد من الإمكان هو الإمكان العرفي بحيث تساعد عليه طريقة المحاورة بين أهل اللسان على وجه لا يبقى العرف متحيّراً في استكشاف المراد من الدليلين، فلا عبرة بالجمع التبرعي الذي لا يساعد عليه العرف والعقلاء.
وبالجملة فإن الجمع مهما أمكن أوْلى ممّا هو فيما يساعد عليه العرف في التوفيق بين الكلامَيْن، وهو لا يكون إلا بين النَصّ والظاهر او بين الأظهر والظاهر، لا في الظاهرين كالعامّين من وجه ونحوه إذا تساويا في الظهور لعدم الدليل عليه بعد عدم مساعدة العرف عليه، إلا في بعض الموارد الخاصّة التي يساعد عليها العرف لجهة من الجهات كما إذا لزم من تقديم أحد الدليلين إلغاء العنوان في الدليل الآخر ولم يلزم من تقديم الدليل الآخر إلغاء العنوان في ذاك الدليل كما في حسنة عبد الله ابن سنان عن أبي عبد الله (عليه السّلام): «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه».[i] وحسنة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السّلام): «كل شيء يطير فلا بأس ببوله وخرئه».[ii] فإنّ النسبة بينهما هي العموم من وجه، لأن حسنة ابن سنان أخصّ من حسنة أبي بصير من أجل اختصاصها بما لا يؤكل لحمه وأعمّ منها من جهة شمولها للطائر وغيره، وحسنة أبي بصير أخصّ من حسنة ابن سنان لتقييد موضوعها بالطيران وأعمّ منها لشمولها الطائر بقسيم المحلل والمحرّم أكله، فيتعارضان في الطائر الذي لا يؤكل لحمه، وعليه فالنسبة بينهما وإن كانت هي العموم من وجه إلا أنه يمكن الجمع العرفي بينهما.
وتوضيحه: أنّ تقديم حسنة ابن سنان يوجب إلغاء عنوان الطير محلل الأكل، وهو في الحقيقة إلغاء لعنوان الطير عن الموضوعية فإن الطهارة على هذا مترتبة عنوان ما يؤكل لحمه سواء كان ذلك هو الطير أم غيره، وهذا بخلاف تقديم حسنة أبي بصير فإنه لا يوجب إلغاء عنوان ما لا يؤكل لحمه فيبقى عندنا كثير من الحيوانات غير الطيور التي لا يؤكل لحمها، وعليه فإنّ العرف يجمع بينهما بتقديم حسنة أبي بصير إذ لا يلزم من ذلك (التتمة في الدرس القادم).
[i] وسائل الشيعة: باب 8 من أبواب النجاسات، ح2.
[ii] وسائل الشيعة: باب 10 من أبواب النجاسات، ح1.
|