ومنها: رواية عبد الله بن سنان قال: «قال أبو عبد الله (عليه السلام): الغِيبة أن تقول في أخيك ما قد ستره الله عليه، فأمَّا إذا قلتَ ما ليس فيه فذلك قول الله عزَّوجل: فقدِ احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً».[1] وهي ضعيفة بالإرسال؛ لأنَّ العياشي (رحمه الله) لم يذكر في تفسيره طريقه إلى عبد الله بن حمَّاد الأنصاري.
ومنها: ما رواه محمَّد بن الحسن في المجالس والأخبار بإسناده عن أبي ذرٍّ عن النَّبيِّ (صلى الله عليه وآله) في وصية له، قال: «قال: يا أبا ذر! إيَّاك والغِيبة، فإنَّ الغِيبة أشدُّ من الزِّنا. (إلى أن قال): قلتُ: يا رسول الله! وما الغِيبة؟ قال: ذِكْرك أخاك بما يكره، قلتُ: يا رسول الله! فإن كان فيه الذي يذكر به؟ قال: اِعلم أنَّك إذا ذكرته بما هو فيه فقد اغتبته، وإذا ذكرته بما ليس فيه فقد بهته».[2] وهي ضعيفة ببعض الأشخاص، وجهالة البعض الآخر الموجود في السَّند.
ومنها: ما في مصباح الشَّريعة: «قال الصادق (عليه السلام): الغِيبة حرام على كلِّ مسلم، مأثوم صاحبها في كلِّ حال، وصفة الغِيبة أنْ تذكر أحداً بما ليس هو عند الله عيب. (إلى أن قال): ووجوه الغِيبة يقع بذكر عيب في الخلق والخُلُق، والعقل والفعل والمعاملة، والمذهب، فالجهل وأشباهه».[3] وهي ضعيفة بالإرسال.
وهناك جملة من الرِّوايات أيضاً وردت من طرق العامَّة: منها: ما عن أبي هريرة عن النَّبيِّ (صلى الله عليه وآله) قال: «أتدرون ما الغِيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذِكْرك أخاك بما يكره».[4] وهي ضعيفة جدًّا.
وقدِ اتَّضح ممَّا تقدَّم أنَّ الرِّوايات الواردة في تعريف الغِيبة كلَّها ضعيفة. وعليه، فلا بدَّ من النَّظر في القيود المأخوذة في موضوع الغِيبة، وهي كثيرة:
منها: أن يكون المقول من الأوصاف المذمومة أو الأفعال القبيحة، فلو كان المقول من الأمور الممدوحة، أو من الأمور العادية التي لا تُوجب نقصاً في المقول فيه فلا تتحقق الغِيبة. وهذا القيد موجود في بعض الرِّوايات، لكنَّك عرفت أنَّ الرِّوايات ضعيفة، إلَّا أنَّ الظَّاهر أنَّ هذا القَيْد متَّفق عليه بين جميع الأعلام، بل هو متسالم عليه قديماً وحديثاً، بحيث يوجب القطع باعتباره في معنى الغِيبة.
ومنها: أن يكون المقول مستوراً عند النَّاس غير ظاهر، وهذا القيد أيضاً متسالم عليه بين الأعلام، وإلَّا فلو كان المقول من الأمور الظَّاهرة لما تحقَّق معنى الغِيبة، وجملة من الرِّوايات المتقدِّمة، وإن كانت دالةً عليه، إلَّا أنَّها ضعيفة، كما عرفت.
والخلاصة: أنَّه لا تتحقَّق الغِيبة بحكاية الأمور الظَّاهرة والمعروفة عند النَّاس.
وأمَّا ما ورد في بعض أخبار العامَّة عن عائشة: أنَّها قالت: «دخلتْ علينا امرأة فلمَّا ولَّت أومأتُ بيدي -أي قصيرة- فقال (صلى الله عليه وآله): اغتبتيها».[5] ففيه أوَّلاً: أنَّ الرِّواية ضعيفة. وثانيا: أنَّه قد يكون الاستعمال مجازياً، حيث إنَّ هذا التصرف من عائشة لما كان تعييرا لهذه الامرأة فعبر عنه (صلى الله عليه وآله) بالاغتياب.
ثمَّ إنَّ هذا العيب في المقول فيه إن لم يكن مستوراً عن النَّاس، ولكن كان مستوراً عن المخاطب، فهل تتحقق الغِيبة؟
والذي يظهر من رواية يحيى الأزرق المتقدِّمة أنَّه ليس بغيبة، ولكنَّك عرفت أنَّ الرِّواية ضعيفة السَّند.
والإنصاف: هو صِدْق الغِيبة؛ لأنَّ القدر المتيقَّن من كونه مستوراً عن النَّاس أن يكون المخاطب مستوراً عنده أيضاً، ولا يوجد عندنا إطلاق يمكن التمسُّك به لنفي شرطيَّة كونه مستوراً عند المخاطب.
ومنها: أن يكون المغتاب -بالكسر- قاصداً للانتقاص، فلو لم يقصد الانتقاص فلا تتحقَّق الغِيبة، وقد نُسِب هذا القَيْد إلى جماعة من الأعلام.
ولكنَّ الإنصاف: أنَّه لا دليل على اعتبار هذا القَيْد، فإنَّ صِدْق العيب لا يتوقَّف على قَصْد الانتقاص؛ لأنَّ عنوان العيب ليس من الأمور القصديَّة، بخلاف عنوان التعظيم والهَتْك، فإنَّهما أمران قصديَّان لا يتحقَّقان بدون القصد.
ومن هنا، لا يقال: إنَّ القدر المتيقَّن من معنى الغِيبة هو قَصْد الانتقاص، وبما أنَّه لا يوجد عندنا إطلاق فيُؤخذ بالقدر المتيقَّن! فإنَّه يقال: إنَّ هذا أيضاً متيقَّن.
وممَّا يؤيد ما ذكرناه: أنَّ جميع الأخبار المتقدِّمة خالية عن قَيْد الانتقاص.
ومنها: أن يكون المقول ممَّا يكرهه المغتاب -بالفتح- ويغمُّه، فلو كان المقول عَيْباً غير مكروه عند المغتاب -بالفتح- ولا يغمُّه، فلا تتحقَّق الغِيبة.
وعن جماعة من الأعلام عدم اشتراط هذا القَيْد؛ لإطلاق رواية يحيى الأزرق. وكذا رواية عبد الرَّحمان بن سيَّابة؛ إذ لم يذكر فيهما ذِكْرك أخاك بما يكره. وكذا رواية داود بن سرحان، فإنَّها مطلقة.
ولكنَّ الإنصاف: أنَّ هذا القَيْد معتبر في مفهوم الغِيبة. وقدِ اعتبره أكثر الأعلام، وأكثر أهل اللغة، وهو القدر المتيقَّن من مفهوم الغِيبة.
وأمَّا الرِّوايات المطلقة، فهي أوَّلاً: معارضة بوصيَّة النَّبيِّ (صلى الله عليه وآله) لأبي ذرٍّ -رضوان الله عليه- وبمرسلة مجمع البيان، حيث أُخِذ في تعريفها كراهة المغتاب -بالفتح-. وثانياً: أنَّك قد عرفت أنَّ الرِّوايات ضعيفة السَّند لا يصحُّ الاستدلال بها.
[1] وسائل الشيعة: باب 154 من أبواب أحكام العِشرة، ح22.
[2] وسائل الشيعة: باب 154 من أبواب أحكام العِشرة، ح9.
[3] وسائل الشيعة: باب 154 من أبواب أحكام العِشرة، ح19.
[4] سنن البيهقي: ج10، ص247.
[5] إحياء العلوم للغزالي: ج3، ص144.
|