ومنها: رواية مِنْهَال القصَّاب، قَالَ: «قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السّلام): أَسْهُو فِي الصَّلَاةِ وَأَنَا خَلْفَ الْإِمَامِ، قَالَ: فَقَالَ: إِذَا سَلَّمَ فَاسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ، وَلَا تهب».[1] [لَا تهب: أي لا تخف]. وجه الاستدلال: هو أنَّ تعليق الحكم على مطلق السَّهو يشمل ما نحن فيه، ولكنَّها ضعيفة بجهالة مِنْهَال القصَّاب.
ومنها: صحيحة جعفر بن بشير المتقدِّمة، حيث ورد في ذَيْلها، قال: «وإذا ذكره وهو في التشهُّد الثاني قبل أنْ يسلِّمَ فَلْيسجدها، ثمَّ يسلِّم، ثمَّ يسجد سجدتي السَّهو».[2] ويرد عليها: أنَّها دالَّة على تدارك السَّجدة المنسيَّة قبل التسليم، وهذا متروك عند الأعلام، وعليه: فلم يعملوا بظاهر هذه الجهة.
لا يقال: إنَّ سقوطها عن الحجيَّة من هذه الجهة لا يمنع من صحَّة الاستدلال بها من ناحية الدَّلالة على سجدتي السَّهو، لإمكان التفكيك بين الفقرات، وهذا ليس بعزيز، وله نظائر كثيرة في الفقه. فإنه يقال: إنَّ هذا يتمُّ لو كان كلُّ فقرة تتضمن حكماُ غير الحكم التي تتضمَّنه الفقرة الأخرى. ولكنَّه هنا ليس الأمر كذلك، لأنَّ الصَّحيحة متعرِّضة لحكم واحد متعلَّق بنسيان السَّجدة.
وأمَّا مَنْ ذهب إلى عدم الوجوب، فقد يستدلُّ:
أوَّلاً: بخلوِّ الرِّوايات الواردة في مقام البيان، الآمرة بقضاء السَّجدة، عن التعرُّض لسجود السَّهو، وحصر ما يوجب السَّهو في جملة من الرِّوايات فيما عداه.
وثانياً: بالرِّوايات الخاصَّة:
منها: صحيحة أبي بصير بطريق الشَّيخ الصَّدوق (رحمه الله)، قَالَ: «سَأَلْتُهُ عَمَّنْ نَسِيَ أَنْ يَسْجُدَ سَجْدَةً وَاحِدَةً، فَذَكَرَهَا، وَهُوَ قَائِمٌ، قَالَ: يَسْجُدُهَا إِذَا ذَكَرَهَا، مَا لَمْ يَرْكَعْ، فَإِنْ كَانَ قَدْ رَكَعَ فَلْيَمْضِ عَلَى صَلَاتِهِ، وَإِذَا انْصَرَفَ قَضَاهَا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ سَهْوٌ».[3] وهي ضعيفة بطريق الشَّيخ بمحمَّد بن سِنان، كما أنَّها مضمرة بطريق الشَّيخ رحمه الله، ولكنَّ الإضمار هنا غير مضرٍّ.
ومنها: رواية محمد بن منصور، قَالَ: «سَأَلْتُهُ عَنِ الَّذِي يَنْسَى السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ مِنَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، أَوْ شَكَّ فِيهَا، فَقَالَ: إِذَا خِفْتَ أَنْ لَا تَكُونَ وَضَعْتَ وَجْهَكَ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَإِذَا سَلَّمْتَ سَجَدْتَ سَجْدَةً وَاحِدَةً، وَتَضَعُ وَجْهَكَ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَيْسَ عَلَيْكَ سَهْوٌ».[4] بناءً على أنَّ المراد بالخوف مطلق عدم الأمن بوقوع الفعل، كي يعمَّ صورة العلم بنسيان واحدة، بقرينة السُّؤال. وفيه أوَّلاً: أنَّ الرِّواية ضعيفة بالإضمار، وبجهالة محمَّد بن منصور، وباشتراك: موسى بن عُمَر وعليِّ بن أحمد بين عدَّة أشخاص. وثانياً: أنَّها صريحة أو كالصَّريحة في صورة الشَّكِّ، والكلام في النسيان؛ نعم، قد يستفاد حكم النسيان منها بالأولويَّة.
ومنها: موثَّقة عمَّار في حديث قال: «سألتُ أبا عبد الله عليه السلام عن رجلٍ ينسى الرُّكوع، أو ينسى سجدةً، هل عليه سجدتا السَّهو؟ قال: لا، قد أتمَّ الصَّلاة».[5] وعدم العمل بجُزْء من هذه الموثَّقة -وهو نسيان الركوع، إذْ ذلك يوجب البطلان بلا إشكال- لا يسقطها عن الحجيَّة فيما عداه، وهما حكمان مستقلَّان، إذ حكم نسيان السَّجدة غير حكم نسيان الرُّكوع. ثمَّ إنَّه لو تمت أدلَّة القول بالوجوب فإنَّها تحمل على الاستحباب لأجل هذه الرِّوايات الظَّاهرة في عدم الوجوب.
والخلاصة: أنَّ الأقوى ما ذهب إليه أكثر المتأخِّرين ومتأخِّرِي المتأخِّرين من القول بعدم الوجوب، وإن كان السُّجود أحوط استحباب.
الأمر الخامس:
المعروف بين الأعلام: هو وجوب سجدتي السَّهو لنسيان التشهُّد.
وفي المدارك: «إنَّه لا خلاف فيه» (انتهى كلامه). بل في الخلاف: «الإجماع عليه» (انتهى كلامه).
أقول: لا نحتاج إلى الاستدلال عليه بالإجماع كي يناقش بأنَّه غير حجَّة، بل يدلُّ عليه الرِّوايات الكثيرة المستفيضة وفيها الصِّحاح وغيرها، والتي تقدَّم بعضها في البحث عن قضاء التشهُّد؛ فلا حاجة لإعادتها، ولا فرق بين نسيان التشهُّد الأوَّل والثاني.
والخلاصة في نهاية المطاف: أنَّه يجب قضاء السَّجدة المنسيَّة، ولا يجب لها سجدتا السَّهو، ولا يجب قضاء التشهُّد، ويجب له سجدتا السَّهو. ولا يجب قضاء الصَّلاة على النَّبيِّ (صلى الله عليه وآله) وآله، ولا وجوب سجدتي السَّهو له، والله العالم.
*قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: بنيَّة الأداء، ما دام في الوقت*
ذكر جماعة من الأعلام -منهم المصنِّف هنا-: أنَّ المراد بقضاء هذه الأجزاء هو الإتيان بها بعد الصَّلاة، من باب: «فَإِذَا قضيت الصَّلاة»، لا القضاء المعهود فإنَّه لا يكون إلَّا مع خروج الوقت.
*قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: وروي قضاء كل فائت وإن كان ركوعاً أو سجودا أو تكبيراً بطريق عبد الله بن سنان الصَّحيح عن الصَّادق (عليه السّلام)*
ذكرنا الصَّحيحة سابقاً، ومثلها صحيحة حكم بن حكيم المتقدِّمة أيضاً، وقلنا: إنَّهما مجملتان إلَّا في القدر المتيقَّن، فلا يمكن الأخذ بجميع ما تضمنتهما.[6]
*قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: ولو ترك سجدتين، وشكَّ أنَّهما من ركعةٍ، أو ركعتين، أعاد*
أقول: إذا علم بعد الفراغ من الصَّلاة بفوات سجدتَيْن:
فتارةً: تكون أطراف العلم الإجمالي بثلاثة، بأنِ احتُمل كون مجموعهما من الأولى، أو من الثانية، أو كلِّ سجدة من ركعة.
وأخرى: يكون له طرفان، بأنْ علم إجمالاً بأنَّه إمَّا تَرَك من كل منهما سجدةً أو السجدتين معاً من خصوص الأولى، أو من خصوص الثانية.
أما تفصيله فيأتي في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.
[1] وسائل الشيعة: باب 24 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، ح6.
[2] وسائل الشيعة: باب 14 من أبواب السجود، ح7.
[3] وسائل الشيعة: باب 14 من أبواب السجود، ح4.
[4] وسائل الشيعة: باب 14 من أبواب السجود، ح6.
[5] وسائل الشيعة: باب 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، ح5.
[6] راجع ما ذكرناه عند الكلام في قضاء التشهد.
|