[الخلاصة]
*- الكلام في: قاعدة الفراغ والتجاوز، ووجه تقديمهما على الاستصحاب.
*- يقع الكلام في عدة أمور: الأمر الأوّل: هل قاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز، قاعدة واحدة. أم أنّهما قاعدتان مستقلتان.
*- لكي يتضح الحال، لا بدّ من التكلّم في مقامين: المقام الأوّل: في مقام الثبوت وأنه هل يمكن جامع قريب بين القاعدتين. المقام الثاني: في مقام الاثبات، وأنه ماذا يستفاد من الروايات الواردة في المقام.
*- أما المقام الأوّل: فقد قيل أنه لا يمكن تصوّر جامع قريب يجمع بين القاعدتين، وذلك لعدة أسباب:
منها: أن متعلق الشك في قاعدة التجاوز إنما هو أجزاء المركب، وفي قاعدة الفراغ يكون المتعلق نفس المركب. تتمة الكلام في هذا السبب.
ومنها: ان التجاوز في قاعدة التجاوز انما يكون عن محل الجزء المشكوك فيه. وفي قاعدة الفراغ انما يكون التجاوز عن نفس المركب لا عن محله.
ومنها: ان متعلق الشك في قاعدة التجاوز انما هو نفس الجزء. وأمّا قاعدة الفراغ فمتعلق الشك فيها ليس وجود الكل، لأنه أحرز وجوده وانما متعلق الشك هو الصحة ووجود الكل ظرف للشك.
*- وأمّا المقام الثاني (وهو مقام الإثبات): فالظاهر من الروايات ان هناك قاعدتين.
*- أما الكلام في موثقة ابن ابي يعفور، فيأتي في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.
وبالجملة، ان الجزء في قاعدة التجاوز يكون ملحوظاً على نحو الاستقلال، وفي قاعدة الفراغ يكون الجزء ملحوظاً تبعياً بتبع لحاظ الكل وارادتهما من لفظ الشيء مستلزم لاجتماع اللحاظين في الجزء وهو محال، فلا بدّ من أن يراد من «الشيء» في الرواية: إمّا خصوص قاعدة التجاوز أو خصوص قاعدة الفراغ.
والإنصاف ان هذا الإشكال غير وارد: لأنه انما يرد في فرض ارادة الكل والجزء من «الشيء» بحيث استعمل لفظ الشيء فيهما. وأمّا لو اريد من «الشيء» في الموثقة معناه الكلّي العام الجامع بين مصاديقه فلا اشكال حينئذٍ، لأنه استعمل في معناه، وهذا المعنى يشمل جميع مصاديقه بلا لحاظ خصوصية الكل والجزء. وعليه: فيكون المراد من «الشيء» في الموثقة مطلق الشيء مركباً كان أو غير مركب، ولا يشمل الكل بما هو كل ولا الجزء بما هو جزء، فيمكن الجمع بين قاعدة التجاوز والفراغ بمثل هذه الموثقة بدعوى عموم الشيء لكل من المركب وجزئه، ولكن سيأتي ان شاء الله ان هذه الموثقة محمولة على قاعدة الفراغ، وسنبيّن السبب في ذلك.
ومنها: ان التجاوز في قاعدة التجاوز انما يكون عن محل الجزء المشكوك فيه، إذ لا يمكن أن يكون التجاوز عن نفس الجزء، لأن الفرض أنه غير محرز، فكيف يكون التجاوز عنه. وفي قاعدة الفراغ انما يكون التجاوز عن نفس المركب لا عن محله، فيلزم على القول بإرجاع قاعدة الفراغ إلى قاعدة التجاوز استعمال التجاوز في معنيين وهو باطل. وفيه: ان المراد من التجاوز انما هو التجاوز عن محل المشكوك فيه مطلقاً، فإن الشك في قاعدة الفراغ أيضاً يكون بعد التجاوز عن محل الجزء المشكوك فيه الذي كان سبباً للشك في وجود الكل، فلم يستعمل في معنيين بل استعمل في معنى واحد له مصدقان.
ومنها: ان متعلق الشك في قاعدة التجاوز انما هو نفس الجزء. وأمّا قاعدة الفراغ فمتعلق الشك فيها ليس وجود الكل، لأنه أحرز وجوده وانما متعلق الشك هو الصحة ووجود الكل ظرف للشك. وعليه، فلا يمكن أن يجمعهما كبرى واحدة. وفيه: ان الجواب قد اتضح ممّا تقدم، وهو أن الشك في قاعدة الفراغ أيضاً يتعلق بوجود الجزء باعتبار أن منشأ الشك في وجود الكل هو الشك في وجود الجزء أو الشرط. وعليه: فلم يختلف متعلق الشك في القاعدتين.
والخلاصة: أن السبب الرئيسي لعدم امكان تصوير جامع قريب يجمع بين القاعدتين، هو ما ذكرناه أوّلاً من أن متعلق الشك في قاعدة التجاوز انما هو وجود الشيء بمفاد كان التامة. وفي قاعدة الفراغ انما هو صحّة الموجود بمفاد كان الناقصة، ولا جامع بينهما فلا يمكن اندراجهما في كبرى واحدة. هذا تمام الكلام في مقام الثبوت.
وأمّا المقام الثاني (وهو مقام الإثبات): فالظاهر من الروايات ان هناك قاعدتين: الأوّلى: تدل على حكم الشك في الوجود بمفاد كان التامة، والمعبّر عنها بقاعدة التجاوز. والأخرى: تدل على حكم الشك في صحّة الموجود بنحو مفاد كان الناقصة المعبّر عنها بقاعدة الفراغ.
أمّا الروايات الدالّة على حكم الشك في الوجود بمفاد كان التامة والمعبّر عنها بقاعدة التجاوز:
فمنها: صحيحة زرارة، قال: «قلت لأبي عبد الله (عليه السّلام): رجل شك في الآذان وقد دخل في الإقامة. قال (عليه السّلام): يمضي. قلت: رجل شك في الآذان والإقامة وقد كبّر. قال (عليه السّلام): يمضي. قلت: رجل شك في التكبير وقد قرأ. قال (عليه السّلام): يمضي. قلت: شك في القراءة وقد ركع. قال (عليه السّلام): يمضي. قلت: شك في الركوع وقد سجد. قال (عليه السّلام): يمضي على صلاته، ثمّ قال (عليه السّلام): يا زرارة إذا خرجت من شيء ثم دخلت في غيره فشكك ليس بشيء».[1]
ومنها: موثقة اسماعيل بن جابر أو صحيحته، قال: «قال أبو جعفر (عليه السّلام): ان شك في الركوع بعدما سجد فليمضِ، وإن شك في السجود بعدما قام فليمضِ، كل شيء شك فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره فليمضِ عليه».[2] وكذا غيرها من الروايات.
وهذه الروايات: ظاهرة في كونها في مقام اعطاء قاعدة عامة للشك المتعلق بأصل وجود الشيء بمفاد كان التامة، لظهور الشك فيها في الشك المتعلق بأصل وجود الشيء.
إن قلت: إن لفظ «قد جاوزه» ظاهر في التجاوز عن نفس الشيء لا عن محله، فيكون المراد من الشك، هو الشك في وجود المركب التام، أي أن متعلق الشك في الواقع هو الصحّة، لأن الكل قد أحرز وجوده فيكون الكل ظرفاً للشك بلحاظ الشك في بعض ما يعتبر فيه جزءً أو شرطاً، فتكون دالّة على حكم الشك في صحّة الموجود بنحو مفاد كان الناقصة المعبّر عنها بقاعدة الفراغ. قلت: إن لفظ «قد جاوزه» وان كان ظاهراً في ذلك إلّا أنه محمول على التجاوز عن المحل لا عن نفس الشيء بقرينة الفقرات المذكورة في الرواية، فإن قوله (عليه السّلام): «ان شك في الركوع بعدما سجد ...» ظاهر جداً في الشك في وجود الركوع بمفاد كان التامة. وكذا قوله (عليه السّلام): «وان شك في السجود بعدما قام ...». فلأجل ذلك يحمل التجاوز على التجاوز عن المحل لا عن نفس الركوع، إذ لا يصدق الخروج حقيقة عن الركوع مع فرض الشك في وجوده. وكذا الحال في السجود.
وممّا ذكرنا يتضح لك: عدم امكان استفادة الجامع بين الشك في أصل وجود الشيء بمفاد كان التامة والشك في صحّة الشيء الموجود بمفاد كان الناقصة، لأنه يؤدي إلى اجتماع اللحاظين في اضافة التجاوز إليه، فلا بدّ حينئذٍ من حمل الروايات المتقدمة على خصوص الشك في أصل وجود الشيء بمفاد كان التامة.
أما الكلام في موثقة ابن ابي يعفور، فيأتي في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.
[1] وسائل الشيعة: باب 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، ح1.
[2] وسائل الشيعة: باب 13 من أبواب الركوع، ح4.
|