[الخلاصة]
*- التنبيه الرابع عشر: ما هو المراد من الشك الذي أخذ موضوعاً في باب الأصول العملية ومورداً في باب الأمارات.
*- وقد استدل الشيخ الأنصاري (رحمه الله) على أن المراد بالشك هو غير اليقين بعدّة أدلة:
*- الكلام في: أنه يعتبر في الاستصحاب كون القضية المشكوكة عين القضية المتيقنة موضوعاً ومحمولاً. ويقع الكلام في عدّة أمور: الأمر الرابع، والأمر الخامس.
*- أما الأمر السادس، فيأتي في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.
الأمر الرابع: اعلم ان الاستصحاب تارة يكون من استصحاب الموضوع، وأخرى من استصحاب الحكم.
ولا كلام في استصحاب الموضوعات: لأن الغالب فيها اتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة موضوعاً ومحمولاً، سواء قلنا بأن تحديد الموضوع فيها راجع إلى النظر العقلي، أو النظر العرفي بحسب ما يفهمه من دليل الحكم، أو النظر العرفي المبني على التسامح بحسب ما هو مرتكز في ذهنه من مناسبة الحكم والموضوع، فإن للعرف نظرين:
أحدهما: من حيث كونه من أهل المحاورة، وبهذا النظر يحدّد الموضوع الوارد في القضية ولو بواسطة القرائن الحافّة بالكلام، فيفرّق بين قوله: الماء المتغيّر ينجس، وبين قوله: الماء إذا تغيّر ينجس؛ من حيث فهمه الموضوع في القضية الأولى هو الماء المتغيّر بما هو متغيّر، وفي القضية الثانية يكون الموضوع فيها ذات الماء ويكون التغيّر جهة تعليلية لثبوت النجاسة للماء.
ثانيهما: هو أنه ينظر إلى القضية بما هو المرتكز في ذهنه من مناسبة الحكم والموضوع ولو على خلاف ما هو المتفاهم من الكلام من حيث كونه من أهل المحاورة، فيرى ان الموضوع للنجاسة في مثل قوله: الماء المتغيّر ينجس، هو ذات الماء، وأنّ التغيّر واسطة في ثبوت النجاسة كما هو المرتكز في ذهنه من ان النجاسة من عوارض الماء لا من عوارض الماء المتغيّر، وإن كان بحسب نظره من حيث كونه من أهل المحاورة وفهم الكلام خلاف ذلك حيث يفهم ان موضوع النجاسة في المثال هو الماء المتغيّر بوصف كونه متغيّراً وسيتضح لك إن شاء الله تعالى ان المتّبَع هو نظره بحسب ما هو المرتكز في ذهنه من مناسبة الحكم والموضوع.
وأمّا الاستصحابات الحكمية: فإن الغالب فيها اختلاف القضية المتيقنة مع القضية المشكوكة من حيث الموضوع، لأن الشك في بقاء الحكم مع بقاء الموضوع على ما كان عليه من الخصوصيات لا يمكن إلّا في باب النسخ. وأمّا في غير النسخ فالشك في بقاء الحكم غالباً يستند إلى انتفاء بعض خصوصيات الموضوع فيحصل الاختلاف بين القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة. وقد يكون الشك في بقاء الحكم لأجل احتمال وجود الرافع أو حصول الغاية له فيشك في بقائه. وسنتكلم عنها بالتفصيل ان شاء الله تعالى قريباً.
الأمر الخامس: اعلم أنه قد ذكرنا في بعض المناسبات أن المرجع في مفاهيم الألفاظ إنما هو العرف العام سواء وافق عرف اللغة أو خالفه ولا عبرة باللغة إذا كان العرف العام على خلافها، فإن الألفاظ ينصرف إلى مفاهيمها العرفية بحسب ما ارتكز في أذهان أهل المحاورات، فعند تعارض العرف واللغة في مفهوم اللفظ يحمل على المفهوم العرفي سواء كان أعمّ من المفهوم اللغوي أو أخص منه، بل ولو كان مبايناً له معه لو اتفق ذلك. وذكرنا أيضاً أنه لا عبرة بالمسامحات العرفية بعد تشخيص المفهوم فلا يرجع إلى العرف في تطبيق المفهوم على المصداق، لأن العرف قد يتسامح في استعمال الألفاظ وتطبيقها على ما لا يكون مصداقاً لمعانيها الواقعية، فإنه كثيراً ما يطلق لفظ الكرّ والفرسخ وغيرها من الألفاظ على ما ينقص عن المقدار أو يزيد عنه بقليل، فالتعويل على العرف انما يكون في باب المفاهيم. وأمّا تطبيق المفهوم على المصداق فليس بيد العرف بل يدور مدار الواقع، فإن كان الشيء مصداقاً للمفهوم ينطبق عليه قهراً، وان لم يكن مصداقاً له فلا يمكن أن ينطبق عليه ولو فرض أن العرف يتسامح في التطبيق.
نعم، قد يشك في صدق المفهوم على بعض الأفراد فالمرجع حينئذٍ هو العرف، فلو شك في صدق مفهوم الحطب على القصب يرجع فيه إلى العرف، فإن صَدَق عليه عنوان الحطب عرفاً فيثبت له آثار الحطب، وان لم يصدق عليه عنوان الحطب عرفاً فإن صدق عليه عنوان آخر، فَهُوَ، وان استقر الشك فالمرجع هو الأصول العملية، وعليه: فإن الرجوع إلى العرف في الصدق غير الرجوع إليه في المصداق، فإن مورد الرجوع إليه المصداق انما هو بعد تبيّن المفهوم وتشخيص المعنى وهذا هو الممنوع منه، لأنه لا عبرة بنظر العرف في المصداق بل لا بدّ من احراز المصداق بعد أخذ المفهوم من العرف.
وأمّا الرجوع إليه في الصدق فهو انما يكون في مورد إجمال المفهوم وعدم تشخيص المعنى، فإن الألفاظ وان كانت موضوعة للمعاني النفس الأمريّة، إلّا أنه قد يشك في صدق المعنى على بعض ما له من المراتب والأفراد، لأنه قد يكون المعنى معلوماً بالتفصيل بجميع حدوده وقيوده لدى العرف، وقد لا يكون معلوماً لديهم بالتفصيل وان كان أصل المعنى على سبيل الإجمال مرتكزاً في ذهنه، ألا ترى أن مفهوم الماء مع أنه من أوضح المفاهيم العرفية ولكن كثيراً ما يحصل الشك في صدقه على بعض الأفراد، كالماء المخلوط بمقدار من التراب على وجه لا يلحقه اسم الطين، وكماء الكبريت ونحو ذلك، ومن المعلوم أن المرجع عند الشك في صدق المفهوم على بعض المراتب والأفراد انما هو العرف.
أما الأمر السادس، فيأتي في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.
|