لا زال الكلام فيما توِّهم ابتناؤه على الأصل المثبت، وكان الكلام بالنسبة لاستصحاب عدم دخول شهر شوّال، لإثبات أنّ يوم الغد هو أوّل شوّال.
ولكن الإنصاف: أن تلك الأحكام المترتبة على أيام الشهر ليست متوقفة على الاستصحاب حتى يمنع ترتبّها بل هي ثابتة بالقاعدة المعروفة بين الأعلام والتي دلّت عليها الروايات، وهي: «صم للرؤيا وأفطر للرؤيا» أو بمضي ثلاثين يوماً فأولية الشهر الذي هو موضوع لتلك الأحكام عبارة عن اليوم الذي ليلته ليلة رؤية الهلال أو الذي سبقه من الشهر الماضي ثلاثون يوماً. كما أن آخر الشهر عبارة عن اليوم الذي ينتهي إلى ليلة رؤية الهلال أو اليوم الثلاثين من ذلك الشهر فعند الشك في الهلال لا نحتاج إلى الاستصحاب بل يعد من الشهر الماضي ثلاثين يوماً، فيكون اليوم الواحد والثلاثون أوّل الشهر، ويترتب عليه الأحكام. وهذا لا يختص بشهر شوال بل مضي الثلاثين يوماً قاعدة عامة في كل الأشهر. والله العالم.
ومنها: استصحاب عدم الحاجب عند الشك في وجوده على محل الغسل لإثبات غسل البشرة، حيث تمسك الأعلام بأصالة عدم الحاجب وعدم الاعتناء باحتمال وجوده. وبالنتيجة، حكموا لصّحة الغسل والوضوء مع أن صحّة الغسل والوضوء مترتب على وصول الماء إلى البشرة، ووصول الماء إلى البشرة من اللوازم العقلية لاستصحاب عدم الحاجب. وعليه: فالحكم بالصّحة مبنيّ على القول بالأصل المثبت. ولكن الإنصاف ان البناء على عدم الحاجب وان كان ثابتاً لكن ليس من باب الاستصحاب حتى يستشكل فيه انه من الأصل المثبت بل البناء على عدم الحاجب أصل عقلائي لا ربط له بالاستصحاب، فالعقلاء يبنون على عدم الحاجب عند الشك فيه من باب أن الغالب خلّو البشرة عن وجود المانع عن وصول الماء إليها. وعليه: فعند الشك في وجوده في محل الغسل يلحق المشكوك بالغالب. ومن هنا لو كان الغالب بالعكس أي كان الغالب وجود الحاجب على البشرة. كما في البنّاء المباشر للجص والطين. وكما في الدّهان والمستعمل للزفت والقير في بعض الأعمال فلا بناء لهم على الاخذ بعدم الحاجب بل يعتنون بذلك. كما في الشك في حاجبية الموجود فإنهم يفحصون عن ذلك حتى يطمئنوا بعدمه.
وممّا يؤيد ما قلناه من أن البناء على عدم الحاجب عند الشك فيه هو أصل عقلائي برأسه لا ربط له بالاستصحاب هو قيام سيرة المتدينين على عدم الفحص عن وجود القمل في الرأس عند الغسل في الأزمنة السابقة بل قد يُعدّ الفحص عنه من وسوسة الشيطان. وإنما جعلنا ذلك مؤيداً لا دليلاً لاحتمال كون بنائهم على ذلك هو لغفلتهم عنه حين الغسل لا مع التفاتهم إلى ذلك قبل العمل أو في أثنائه.
ثم أنه لو أبيت عن ذلك وأصرّيت: على أن أخذهم بأصالة عدم الحاجب إنما هو من باب الاستصحاب، فيمكن أي يُصحّح بأن يقال: إنه حين وضع الماء على محل الغسل المتيقن عدم وجود الحاجب فيه كنّا على يقين بجريان الماء على البشرة، فإذا شككنا في وصوله على البشرة لأجل احتمال وجود الحاجب فنستصحب بقاء الماء الموضوع على محل الغسل على وصف الجريان وبذلك يتمّ الاستصحاب، ولا يكون من الاصل المثبت. والله العالم.
ومنها: غير ذلك من الموارد التي يتوهم ابتناؤها على القول بالأصل المثبت ولا حاجة لسردها ومن أراد المزيد فليرجع إلى المطولات.
[التنبيه الثامن]
*قال صاحب الكفاية (رحمه الله): «انه لا تفاوت في الأثر المترتب على المستصحب بين أن يكون مترتباً عليه بلا واسطة شيء أو بواسطة عنوان كلّي ينطبق ويحمل عليه بالحمل الشايع ويتحد معه وجوداً كان منتزعاً عن مرتبة ذاته أو بملاحظة بعض عوارضه ممّا هو خارج المحمول لا بالضميمة فإن الأثر في الصورتين إنما يكون له حقيقة حيث لا يكون بحذاء ذلك الكلّي في الخارج سواه لا لغيره ممّا كان مبائناً معه أو من عوارضه...»*
أقول: ينبغي أن يكون هذا التنبيه تابعاً للتنبيه السابق، لأنه أشار فيه إلى موارد قد يتوهم كون الأصل الجاري فيها مبنيّاً على القول بالأصل المثبت:
منها: استصحاب الفرد لترتيب الأحكام المترتبة على الكلّي الطبيعي، ومنشأ التوهم أحد أمرين:
الأمر الأوّل: توهم مغايرة الكلّي مع أفراده وجوداً، فالأصل الجاري في الفرد لإثبات أثر الكلّي يكون من الأصل المثبت لإن الكلّي لازم عقلي للفرد.
الأمر الثاني: توهم أن أثر الكلّي إنما يترتب على الفرد بجميع مشخصاته الخارجية التي ليس لها مدخلية في وجود الكلّي. ومن المعلوم أن الفرد بجميع مشخصاته يغاير الكلّي.
ومنها: استصحاب منشأ الانتزاع لترتيب الأثر المترتب على الأمور الإنتزاعية. وهي الأمور التي ليس بحذائها شيء في الخارج كالغصبية والملكية ونحوهما.
ووجه توهم كونها مبنيّة على الأصل المثبت: هو ما تقدم من توهم مغايرة الكلّي لأفراده وجوداً:
مثاله في الغصب استصحاب عدم رضا المالك ببقاء ماله في يد الأجنبي ليترتب عليه ضمانه. مع أن الضمان من آثار الغصب. والغصب عنوان كلّي وأمر انتزاعي وهو مغاير لفرده الذي هو منشأ الإنتزاع أي كون المال بيد الأجنبي مع عدم رضا صاحبه.
ومثاله في الملكية ما لو نذر زيد أن يتصدق بدرهمين على تقدير حياة ولده، فإن وجوب التصدق مترتب على الملكية، فإذا استصحبنا حياة الولد لإثبات الملكية المنتزعة من النذر بالتصدق يكون ذلك من الأصل المثبت.
أما الجواب عن الكلّ، فيأتي في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.
|