لا زال الكلام في الأمر الثاني: وهو في كيفية إدراك الركعة، وقلنا إن الأقوال في المسألة ثلاثة.
وقدِ استُدل للمشهور بالرِّوايات الكثيرة:
منها: صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السّلام)، أنَّه قال: «إذا أدركت الإمام وقد ركع، فكبَّرت وركعت قبل أن يرفع الإمام رأسه، فقد أدركت الرَّكعة، وإنْ رفع رأسه قبل أنْ تركع فقد فاتتك الرَّكعة»[1].
ومنها: صحيحة سُليمان بن خالد عن أبي عبد الله (عليه السّلام)، أنَّه قال: «في الرَّجل إذا أدرك الإمام وهو راكع، وكبر الرَّجل وهو مقيم صُلْبه، ثمَّ ركع قبل أن يرفع الإمام رأسه فقد أدرك الرَّكعة»[2].
ومنها: صحيحة عبد الرحمان بن أبي عبد الله قال: «سمعت أبا عبد الله (عليه السّلام)، يقول: إذا دخلتَ المسجد والإمام راكع، فظننتَ أنَّك إنْ مشيتَ إليه رفع رأسه قبل أن تدركه، فكبِّر واركع، فإذا رفع رأسه فاسجد مكانك، فإذا قام فالْحَقْ بالصّفّ، فإذا جلس فاجلس مكانك، فإذا قام فالْحَقْ بالصّفّ»[3].
ومنها: رواية أبي أسامة زيد الشَّحام أنَّه سأل أبا عبد الله (عليه السّلام)، عن رجلٍ انتهى في الإمام وهو راكع، قال: «إذا كبَّر وأقام صلبه ثمَّ ركع فقد أدرك»[4]. ولكنَّها ضعيفة بأبي جميلة الواقع في إسناد الشَّيخ الصَّدوق (رحمه الله) إلى أبي أسامة.
ومنها: رواية معاوية بن ميسرة عن أبي عبد الله (عليه السّلام)، أنه قال: «إذا جاء الرَّجل مبادِراً والإمام راكع أجزأته تكبيرة واحدة لدخوله في الصَّلاة والرُّكوع»[5]. وهي ضعيفة أيضاً بعدم وثاقة معاوية بن ميسرة.
ومنها: رواية جابر الجعفي قال: «قلتُ لأبي جعفر (عليه السّلام)، إني أؤم قوماً فأركع، فيدخل النَّاس وأنا راكع، فكم أنتظر؟ فقال: ما أعجب ما تسأل عنه يا جابر، انتظر مِثْلَي ركوعك، فإنِ انقطعوا، وإلَّا فارفع رأسك»[6]. وهي ضعيفة بعَمْرِو بن شَمِر.
ومنها: مرسلة مروك بن عبيد عن بعض أصحابه عن أبي جعفر (عليه السّلام)، قال: «قلتُ له: إنِّي إمامُ مسجدِ الحي، فأركع بهم، فأسمع خفقان نعالهم وأنا راكع، فقال: اِصبر ركوعك ومِثْل ركوعك، فإنِ انقطعوا (انقطع)، وإلَّا فانتصب قائماً»[7]. ولكنَّها ضعيفة بالإرسال من جهتين.
وأمَّا بالنسبة للقول الآخر -أي اعتبار إدراك تكبير الرُّكوع- فقدِ استدلّ له بجملة من الرِّوايات:
منها: صحيحة محمَّد بن مسلم الأُولى عن أبي جعفر (عليه السّلام)، قال: «إذا أدركت التكبيرة قبل أن يركع الإمام فقد أدركت الصَّلاة»[8].
ومنها: صحيحته الثانية عن أبي جعفر (عليه السّلام)، قال: «قال لي: إذا لم تدرك القوم قبل أن يكبِّر الإمام للرِّكعة فلا تدخل معهم في تلك الرِّكعة»[9].
ومنها: صحيحته الثالثة عن أبي جعفر (عليه السّلام)، قال: «لا تعتدَّ بالرِّكعة التي لم تشهد تكبيرها مع الإمام»[10].
ومنها: روايته الرَّابعة قال: «قال أبو عبد الله (عليه السّلام): إذا لم تدرك تكبيرة الرُّكوع فلا تدخل معهم في تلك الرِّكعة»[11]. ولكنَّها ضعيفة، لأنَّ محمَّد بن إسماعيل الذي يروي عنه الكليني (رحمه الله)، ليس هو ابن بزيع الثقة، بل الظَّاهر أنَّه البندقي النيشابوري المجهول.
وأجاب المحقِّق (رحمه الله) في المعتبر عن هذه الرِّوايات بثلاثة وجوه: «أحدها إن رواياته أصلها واحد وهو محمد بن مسلم وما ذكرناه نحن مروي من طرق. والثاني أكثر الأصحاب على ما قلناه وهو أمارة الرجحان وهذا هو معنى قولنا على الأشهر. والثالث إن التكبير ليس من واجبات الركوع فلا يكون لفواته أثر في فوات الاقتداء، وحينئذ يمكن حمل روايته على نفي الاعتداد بها في الفضيلة لا في الإجزاء»[12]. (انتهى كلامه)
أقول: هذه الوجوه الثلاثة لا دليل على الترجيح بها. نعم، قوله (رحمه الله): «يمكن حمل رواياته على نفي الاعتداد بها في الفضيلة لا في الإجزاء» هو الصَّحيح، وذلك لأنَّ الرِّوايات السَّابقة المستدَلّ بها للمشهور صريحة في المدَّعى، وهذه الرِّوايات لابن مسلم ظاهرة في نفي الصّحّة. وعليه: فمقتضى القاعدة رفع اليد عن الظَّاهر بالنصّ، وهو ما قلناه من حَمْلها على نفي الاعتداد بها في الفضيلة، والله العالِم.
وأمَّا القول المحكي عن العلّامة (رحمه الله) في التذكرة: «من أنَّه يعتبر في إدراك الركعة ذِكْر المأموم قبل رفع الإمام رأسه» فقد يستدلّ له: برواية الاحتجاج المرويَّة عن (محمَّد بن ) عبد الله بن جعفر الحِمْيري عن صاحب الأمر (عجّل الله تعالى فَرَجَه الشَّريف): «أنَّه كتب إليه يسأله عن الرَّجل يلحق الإمام وهو راكع، فيركع معه ويحتسب بتلك الركعة، فإنَّ بعض أصحابنا قال: إن لم يسمع تكبيرة الرُّكوع فليس له أن يعتدّ بتلك الرَّكعة، فأجاب: إذا لحق مع الإمام من تسبيح الرُّكوع تسبيحةً واحدةً اعتدّ بتلك الرَّكعة، وإن لم يسمع تكبيرة الرُّكوع»[13].
وفيها أوَّلاً: أنَّها ضعيفة بالإرسال.
وثانياً: أجاب عنها المحقِّق الهمداني (رحمه الله): «بأنَّ ظهور صحيحتي الحلبي وسُليمان بن خالد المتقدِّمتين في الإطلاق، وإناطة الحكم بإدراك الإمام قبل أن يرفع رأسه، أقوى من ظهور هذه الشّرطيَّة المسوقة لنفي اعتبار سماع التكبير في المفهوم فيحتمل أن تكون الشرطية جاريةً مجرى العادة من عدم حصول الجزم بإدراكه راكعاً في الغالب إلَّا في مثل الفرض، أو أُريد به التمثيل بالفرد الواضح الذي لا يتطرق إليه شبهة عدم اللحوق»[14]. (انتهى كلامه)
أما الجواب عمّا ذكره المحقق الهمداني (رحمه الله)، فيأتي في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] وسائل الشيعة: باب 45 من أبواب صلاة الجماعة، ح2.
[2] وسائل الشيعة: باب 45 من أبواب صلاة الجماعة، ح1.
[3] وسائل الشيعة: باب 46 من أبواب صلاة الجماعة، ح3.
[4] وسائل الشيعة: باب 45 من أبواب صلاة الجماعة، ح3.
[5] وسائل الشيعة: باب 45 من أبواب صلاة الجماعة، ح4.
[6] وسائل الشيعة: باب 50 من أبواب صلاة الجماعة، ح1.
[7] وسائل الشيعة: باب 50 من أبواب صلاة الجماعة، ح2.
[8] وسائل الشيعة: باب 44 من أبواب صلاة الجماعة، ح1.
[9] وسائل الشيعة: باب 44 من أبواب صلاة الجماعة، ح2.
[10] وسائل الشيعة: باب 44 من أبواب صلاة الجماعة، ح3.
[11] وسائل الشيعة: باب 44 من أبواب صلاة الجماعة، ح4.
[12] المعتبر (للمحقق الحلّي): ج2، ص279.
[13] وسائل الشيعة: باب 45 من أبواب صلاة الجماعة، ح5.
[ 14] مصباح الفقيه (الطبعة القديمة): ج2، ق2، ص435.
|