• الموقع : موقع سماحة اية الله الشيخ حسن الرميتي .
        • القسم الرئيسي : بحث الاصول .
              • القسم الفرعي : الاصول العملية / بحث الاصول .
                    • الموضوع : الدرس 205 _ تنبيهات الإستصحاب 26 .

الدرس 205 _ تنبيهات الإستصحاب 26

لا زال الكلام عن الوجه الأول للمنع عن استصحاب عدم النسخ في الشرايع السابقة. وقلنا قد أجيب عن هذا الإشكال بجوابين، وقد ذكرنا الجواب الأول.

الجواب الثاني عن هذا الإشكال، وحاصله: أنّ اختلاف الموضوع مبنيٌ على أن يكون الحكم الثابت في الشريعة السابقة بنحو القضايا الخارجية المتكفّلة للحكم على الافراد المحققة الوجود في زمان خاص، إذ حينئذ لا يقين بثبوت الحكم من الأول للافراد الموجودة في الأزمنة المتأخرة وانما المتيقن ثبوته بالنسبة إلى الافراد الموجودة في الزمان السابق.
ولكن لا يخفى عليك: أنّ الأحكام الشرعية لم ترِد على نحو القضايا الخارجية بحيث تكون أحكاماً جزئية بل لا يمكن الالتزام بذلك، إذ يلزم منه أن تكون الأدلة الواردة في الكتاب والسنّة النبوية الشريفة كلها أخبارا عن إنشاءات لاحقة عند وجود آحاد المكلفين بعدد أفرادهم، وهو باطل، بل المنشآت الشرعية كلها من قبيل القضايا الحقيقية التي يفرض فيها وجود الموضوع في ترتب المحمول عليه كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى♦أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾ ونحو ذلك فيما إذا كان الحكم فيه شاملاً لجميع الأفراد أي المحققة والمقدّرة بتمامها، فإن كان الفرد موجوداً كان الحكم الثابت له فعلياً وإن كان مقدّراً مفروضاً كان الحكم الثابت له تقديرياً أي كلما وجد الانسان في الخارج فهو في خسر أو يطغى إلى انتهاء الدنيا.
والحاصل: أنه في القضايا الحقيقية يؤخذ للموضوع عنوان كلّي يكون مرآتاً لما ينطبق عليه من الافراد عند وجودها، كالبالغ العاقل المستطيع الذي اخذ عنوانا لمن يجب عليه الحج، فالموضوع ليس آحاد المكلفين لكي يتوهم اختلاف الموضوع باختلاف الأشخاص الموجودين في زمان هذه الشريعة والموجودين في زمان الشرايع السابقة، فإذا كان الموضوع لوجوب الحج هو عنوان البالغ العاقل المستطيع، فكل من ينطبق عليه هذا العنوان من مبدأ إنشاء الحكم إلى آخر الدنيا يجب عليه الحج، سواء أدرك الشرايع السابقة أو لم يدرك، فإذا فرض أنه أنشأ حكم كلي لموضوع كلي ثم شك المكلف في بقاء الحكم ونسخه فيجري استصحاب بقائه، سواء أدرك الشرايع السابقة أو لم يدرك إلّا هذه الشريعة المقدّسة.
والخلاصة: أنه لو كان الحكم في القضايا الشرعية لخصوص الأفراد الموجودين في الخارج بنحو القضايا الخارجية لم يصحّ استصحاب عدم النسخ حتى في شرعنا هذا بالنسبة للأفراد الموجودة في الأزمنة المتأخّرة نظراً إلى تغاير الموضوع، بل لم يصحّ نسخ الحكم أيضاً بالنسبة إلى غير الموجودين في زمان صدور الحكم نظراً إلى تغاير الموضوع، فإنّ المكلّف الفعلي ممّن لم يكلف بذلك الحكم حتى يصح نسخة في حقه.

ثمّ إنّ ما ذكرناه من الإشكال وجوابه: إنما هو في فرض إجراء استصحاب عدم النسخ في الحكم التنجيزي، وأما الاستصحاب التعليقي -بناءً على صحّته- فلا إشكال في جريانه بالنسبة إلى الموجودين في الشريعة اللّاحقة فيقال: هذا المكلف كان بحيث لو وجد لوجب عليه كذا، فهو إلى الآن على ما كان، فلو وجد الآن لوجب عليه كذا، فإنّ مرجع الشكّ في نسخ الحكم إلى الشكّ في بقاء القضية التعليقية والملازمة المزبورة وبالاستصحاب المزبور يحكم عليهم بوجوب كذا.
والنتيجة إلى هنا: أنّ هذا الجواب الثاني عن إشكال اختلاف الموضوع في غاية الصحّة والمتانة.
هذا تمام الكلام عن الوجه الأول للمنع عن استصحاب عدم النسخ في الشرايع السابقة.

وأمّا الوجه الثاني للمنع عنه: هو ما اشتهر بين الأعلام من أنّ هذه الشريعة المقدّسة ناسخة لغيرها من الشرائع، فإنه لو لم نقل بأنّ هذه الشريعة قد نسخت جميع أحكام الشرائع السابقة فلا أقلّ من كونها ناسخة لكثير من الاحكام الثابتة في الشرائع السابقة، وهذا العلم الإجمالي بالنسخ يمنع عن جريان الأصل النافي للتكليف في أطرافه، وعليه: فلا يصحّ استصحاب عدم النسخ.
أقول: وقبل الجواب عن هذا الوجه للمنع، أنه ثبت بالأدلة أنّ بعض أحكام الشرائع السابقة لم تنسخ، ويؤكد هذا الأمر ما رواه في مجمع البيان نقلاً من تفسير علي بن إبراهيم عن الصادق (عليه السّلام) في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ قال: «إنه ما ابتلاه الله به في نومه من ذبح ولده إسماعيل فأتمها إبراهيم وعزم عليها وسلم لأمر الله فلما عزم قال الله تعالى له ثوابا له. (إلى أن قال): ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ ثم أنزل عليه الحنيفية وهي عشرة أشياء: خمسة منها في الرأس، وخمسة منها في البدن، فأما التي في الرأس فأخذ الشارب، وإعفاء اللحى، وطم الشعر، والسواك، والخلال، وأما التي في البدن فحلق الشعر من البدن، والختان، وتقليم الأظفار، والغسل من الجنابة، والطهور بالماء، فهذه الحنيفية الظاهرة التي جاء بها إبراهيم (عليه السلام)، فلَمْ تنسخ ولا تنسخ إلى يوم القيامة، وهو قوله: ﴿وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً﴾»[1]. ولكنّها ضعيفة بالإرسال.
بيان بعض العبارات: طمّ الشعر: هو تفريقه، والخلال: هي المضمضة والاستنشاق.
وعليه: فلا موجب للقول بأنّ جميع الأحكام السابقة نُسخت بحيث لو كان حكمٌ في الشريعة اللاحقة موافقاً لِما في الشريعة السابقة لكان الحكم المجعول في الشريعة اللاحقة مماثلاً للحكم المجعول في الشريعة السابقة لا بقاءً له، كإباحة شرب الماء الذي هو ثابت في جميع الشرائع، وبالجملة فلا موجب للقول بذلك.

أما الجواب عن هذا الإشكال، فيأتي في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.                        

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] وسائل الشيعة: باب 67 من أبواب آداب الحمّام، ح5.


  • المصدر : http://www.al-roumayte.com/subject.php?id=1619
  • تاريخ إضافة الموضوع : الخميس: 06-09-2018
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 12