*قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: والطهارة من الحدث فيهما على الأقوى، وفي المعتبر لا يشترط الطهارة من الخبث ولا من الحدث الأصغر*
قال صاحب المدارك (رحمه الله): «اختلف الأصحاب في اشتراط طهارة الخطيب من الحدث وقت إيراد الخطبتين بعد اتفاقهم على الرجحان المتناول للوجوب والندب، فقال الشيخ في المبسوط والخلاف بالاشتراط، ومنعه ابن إدريس والمصنف والعلامة»[1]. (انتهى كلامه)
وممّن ذهب إلى الاشتراط المصنف هنا وفي الذكرى والشهيد الثاني في الروض (رحمهم الله جميعاً).
أقول: استدل للاشتراط بعدة أدلة:
منها: ما ذكره الشيخ على ما حكاه صاحب المدارك: «من أنه أحوط، إذ مع الطهارة تبرأ الذمة بيقين، وبدونها لا يحصل يقين البراءة، وبأن النبي صلى الله عليه وآله كان يتطهر قبل الخطبة فيجب اتباعه في ذلك لأدلة التأسي»[2]. (انتهى كلامه). وفيه: أنّ المورد ليس من موارد الاحتياط، بل من موارد البراءة لأنه شكّ في التكليف. وأما التأسّي فقد عرفت أنّ فعل المعصوم (عليه السّلام) مجملاً لا إطلاق فيه والقدر المتيقن منه هو الرجحان أي الاستحباب هنا.
ومنها: صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السّلام) في حديثٍ قال: «إنما جعلت الجمعة ركعتين من أجل الخطبتين فهي صلاة حتى ينزل الإمام»[3]. والضمير -أي هي عائد على الخطبتين وإن أُفرِد لأجل مطابقة الخبر وهو الصلاة- ووجه الاستدلال: أنّ الاتّحاد محال، إذ لا يعقل أن تكون حقيقة الخطبتين هي عين حقيقة الصلاة في قوله (عليه السّلام): «فهي صلاة» فالمراد حينئذٍ المماثلة في الأحكام والشرائط، ومن جملة شرائط الصلاة الطهارة من الحدث فكذلك الخطبتان وفقاً للتشبيه.
وفيه:
أولاً: أنّ «الفاء» في قوله (عليه السّلام): «فهي صلاة» للتفريع، أي لمّا نزّل الخطبتين منزلة الركعتين فرّع عليه بقوله (عليه السّلام): «فهي صلاة» أي هي صلاة من حيث الاتيان بها، كما أنّ مقتضى التكليف بالصلاة هو أدائها فكذلك الخطبتان يجب الاتيان بهما.
وثانياً: يحتمل أن تكون «الفاء» تعليلية لا تفريعية، أي قامت الخطبتان مقام الركعتين لأنهما صلاة، أي دعاء لأن الصلاة في اللغة هي الدعاء، والخطبة مشتملة على الذِكر والثناء والدعاء والقراءة. قال الفاضل الأصبهاني (رحمه الله) في كشف اللثام: «وحمل الصلاة على الدعاء الذي هو معناه الحقيقي لغة أَولى من حملها على المجاز الشرعي الذي هو التشبيه بالصلاة»[4]. (انتهى كلامه)
وثالثاً: انه لا يمكن إرادة المماثلة في الشرائط والأحكام، بدليل عدم تعرّض الفقهاء لباقي ما يعتبر في الصلاة من الأحكام الكثيرة، بل المعروف بين الأعلام سقوط اعتبار القبلة في الخطبتين، وعدم البطلان بكلام التخاطب في أثنائها وعدم الافتقار إلى التسليم، كما ان الأكثر منهم لم يشترطوا طهارة الثوب في الخطبتين، نعم حكى في التذكرة عن الشيخ (رحمه الله): اشتراط الطهارة من الحدث والخبث، كما أن ظاهر المنتهى والبيان والميسية والمسالك والروضة على ما عن بعضها وجوب الطهارة من الخبث. ومهما يكن فإنّ هذا الدليل لم يكتب له التوفيق.
ومنها: مرسلة الفقيه قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السّلام): لا كلام والإمام يخطب ولا التفات إلا كما يحلّ في الصلاة، إنما جعلت الجمعة ركعتين من أجل الخطبتين، جعلتا مكان الركعتين الأخيرتين، فهما صلاة حتى ينزل الإمام»[5]. والاستدلال بها كالاستدلال بالصحيحة المتقدمة.
ويرد عليها، أولاً: أنها ضعيفة بالإرسال. وثانياً: أنّ ظاهرها اعتبار شرائط الصلاة من حرمة التكلّم والالتفات ونحوها بالنسبة إلى الحاضرين، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به ولم يذهب إليه الأعلام إلا من شذّ منهم، والظاهر والله العالِم أنّ المراد بالمرسلة الحثّ على استماع الخطبة بترك الكلام والالتفات عن الإمام لا عن القبلة، كما أومأ إليه أمير المؤمنين (عليه السّلام) في مرسلة دعائم الإسلام، قال: «يستقبل الناس الإمام عند الخطبة بوجوههم ويصغون إليه ولا يتكلمون بل يستمعون فهم في صلاة»[6]. وهي وإن كانت واضحة المراد ولكنها ضعيفة بالإرسال، والمراد بقوله (عليه السّلام): «فهم في الصلاة» أي في حكم الصلاة في الثواب بالنسبة للحاضرين.
ويكشف عن ذلك ما رواه الشيخ الصدوق (رحمه الله) في كتاب عيون الاخبار والعلل، وهذا ما يأتي في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] مدارك الأحكام: ج4، شرح ص40.
[2] مدارك الأحكام: ج4، شرح ص40.
[3] وسائل الشيعة: باب 6 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها، ح4.
[4] كشف اللثام: ج4، ص256.
[5] وسائل الشيعة: باب 14 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها، ح2.
[6] دعائم الإسلام: ج1، ص183.
|