ومن جملة الإشكالات الواردة في المقام (استصحاب الكلّي من القسم الثاني): هو الإشكال المنسوب إلى السيد إسماعيل الصدر، وهو الإشكال المعروف بالشبهة العبائية.
وقبل ذكر هذا الإشكال نقول: إن السيد إسماعيل الصدر ولد بأصفهان سنة 1258 للهجرة، وأصل أبيه من جبل عامل، هاجر أبوه في فتنة الجزّار إلى العراق ثمّ إلى أصفهان وتوفيَ أبوه وعمره خمس سنين.
ثمّ إنه بعد أن قرأ المقدمات وشرح اللمعة وبعض الأصول توّجه إلى النجف الأشرف بقصد حضور درس الشيخ مرتضى الأنصاري (رحمه الله)، فلمّا وصل كربلاء جاء خبر وفاة الشيخ مرتضى الأنصاري (رحمه الله) فدخل النجف في أيام فاتحته.
وفي سنة 1307 للهجرة طلبه أهل جبل عامل للذهاب إليهم بعد وفاة الشيخ موسى آل شرارة (رحمه الله) فأبى ثمّ انقطع إلى الميرزا السيد محمد حسن الشيرازي الكبير الذي هو تلميذ الشيخ مرتضى الأنصاري (رحمهما الله).
وهاجر إلى سامرّاء بعد مهاجرة الميرزا (الشيرازي) إليها فكان بها إلى سنة 1314 بعد وفاة الميرزا بسنتين، ثمّ هاجر إلى كربلاء ثمّ عاد في أواخر عمره إلى الكاظمية حتّى توفيَ فيها سنة 1338 للهجرة، ودفن في الرواق الشريف، وكان الميرزا النائيني (رحمه الله) من تلامذته.
إذا عرفت ذلك فنقول:
أنّ السيد إسماعيل الصدر (رحمه الله) أشكل في بعض مجالسه في النجف الأشرف، وحاصل الإشكال: أنه لو علم بنجاسة أحد جانبي العباءة الأسفل أو الأعلى ثمّ غسّل منها الأعلى مثلاً أو الأسفل حيث يحتمل كونه هو الجانب المتنجّس، ثمّ لاقى بدن المصلي مع الرطوبة كلّاً من جانبيها المطهَّر وغير المطهَّر، وبناءً على صحة جريان استصحاب الكلّي من القسم الثاني يلزم منه الحكم بنجاسة الملاقي لجانبي العباءة المطهَّر وغير المطهَّر، لأن ملاقي مستصحَب النجاسة كالملاقي للنجس محكومٌ بالنجاسة، مع أنه لا يصحّ الحكم بالنجاسة قطعاً، إذ لا إشكال في أنه لا يحكم بنجاسة الملاقي للطرف المغسول للعلم بطهارته بعد الغسل، إمّا بالطهارة السابقة أو بالطهارة الحاصلة بالغَسل، وكذا لا يحكم بنجاسة الملاقي للطرف الآخر غير المغسول للشكّ في ملاقاته مع النجس، ولذا قيل بطهارة الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة.
وقد أجيب عن هذا الإشكال ببعض الوجوه:
منها: ما ذكره الميرزا النائيني (رحمه الله): «أن محل الكلام في استصحاب الكلي إنما هو فيما إذا كان نفس المتيقن السابق بهويته وحقيقته مرددا بين ما هو مقطوع الارتفاع وما هو مقطوع البقاء، كالأمثلة المتقدمة، وأما إذا كان الاجمال والترديد في محل المتيقن وموضوعه لا في نفسه وهويته فهذا لا يكون من الاستصحاب الكلي بل يكون كاستصحاب الفرد المردد الذي قد تقدم المنع عن جريان الاستصحاب فيه عند ارتفاع أحد فردي الترديد، فلو علم بوجود الحيوان الخاص في الدار وتردد بين أن يكون في الجانب الشرقي أو في الجانب الغربي ثم انهدم الجانب الغربي واحتمل أن يكون الحيوان تلف بانهدامه أو علم بوجود درهم خاص لزيد فيما بين هذه الدراهم العشر ثم ضاع أحد الدراهم واحتمل أن يكون هو درهم زيد أو علم بإصابة العباء نجاسة خاصة وتردد محلها بين كونها في الطرف الأسفل أو الاعلى ثم طهر طرفها الأسفل، ففي جميع هذه الأمثلة استصحاب بقاء المتيقن لا يجري، ولا يكون من الاستصحاب الكلي، لان المتيقن السابق أمر جزئي حقيقي لا ترديد فيه، وإنما الترديد في المحل والموضوع فهو أشبه باستصحاب الفرد المردد عند ارتفاع أحد فردي الترديد، وليس من الاستصحاب الكلي . ومنه يظهر الجواب عن الشبهة العبائية المشهورة» [1]. (انتهى كلامه)
وفيه: أنّ أصل الإشكال غير مبنيّ على استصحاب الكلّي حتّى يُشكل عليه بهذه الأمور، بل الإشكال وارد حتى لو كان الاستصحاب من استصحاب الفرد المردد، وقد ذكرنا سابقاً أنه لا مانع من استصحاب الفرد المردد إذا ترتب الأثر الشرعي على العنوان المردد، وما ذكرناه سابقاً من عدم جريان الاستصحاب فيه لا لأجل عدم اجتماع أركان الاستصحاب فيه، بل لأجل عدم الأثر في العنوان المردد.
وعليه: فإذا ترتب الأثر -كما هنا- فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه، وحينئذٍ فلا حاجة للنزاع في أن هذه الأمور التي ذكرها الميرزا النائيني (رحمه الله) من استصحاب الكلّي أو استصحاب الفرد المردد، بل لو كانت من استصحاب الفرد المردد تبقى الشبهة التي ذكرها السيد إسماعيل الصدر (رحمه الله) واردة.
أما المثال الأول: فالشكّ في المحل بعدما كان موجباً للشكّ في بقاء ما هو معلوم الهويّة فالاستصحاب يجري فيه، فهو نظير ما لو علم بوجود زيد في الدار وقد علم بأنه شرب مايعاً مرددا بين كونا ماء أو سما قاتلا من حيث اقتضاء الترديد في المشروب الترديد في حياته، فكما يجري فيه الاستصحاب ويترتب على بقائه في الزمان المتأخر آثاره الشرعية من حرمة تزويج زوجته وعدم جواز تقسيم أمواله ونحو ذلك، كذلك الأمر في المثال الأول، ومجرد عدم كونه من باب الاستصحاب الكلي لا يضرّ بالمقصود، لأن المهم جريان الاستصحاب وان لم يكن من استصحاب الكلّي.
وأما المثالان الأخيران: فالاستصحاب فيهما أيضاً يجري، فإنّ الترديد في المحل بعدما كان موجباً للترديد في بقاء ما هو المتيقن سابقاً بشخصيته وهويته فلا قصور في استصحابه لتمامية أركانه فيه من اليقين السابق بالوجود والشكّ في البقاء، فيستصحب بقاء شخص الدرهم الذي كان لزيد، وبقاء شخص تلك النجاسة التي أصابت العباءة بعد غسل الجانب الأسفل منها، فيترتب على بقائها في الزمان المتأخر آثارها الشرعية من المانعية عن صحّة الصلاة فيها، وعليه فيتوجه إشكال الشبهة العبائية، إذ هذا الإشكال غير مبنيّ على كون الاستصحاب من استصحاب الكلّي، بل يجري وإنْ كان الاستصحاب من استصحاب الفرد المردد كما هو معلوم.
والخلاصة: أنّ ما ذكره الميرزا النائيني (رحمه الله) لم يكتب له التوفيق. والله العالِم.
أما الجواب الشافي في المقام، فيأتي في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] فوائد الأصول (للكاظمي): ج4، ص421.
|