والجواب عن عمّا ذكره المحدث الاسترآباي.
أما دليله الأول: وهو أنه إذا تبدل قيد موضوع المسألة بنقيض ذلك القيد اختلف موضوع المسألتين.
فيرد عليه: أن المناط في بقاء الموضوع وعدم بقائه هو الفهم العرفي، وليس الدِقَّة العقلية؛ ومن المعلوم أن نظر العرف مختلفٌ في ذلك:
فقد يكون القيد عند العرف من مقوِّمات الموضوع بحيث اذا ذهب القيد، ذهب الموضوع معه، كما في قولك: «صلِّ خلف العادل»، فإنّ العدالة في نظر العُرف من مقوِّمات الموضوع، فاذا صار فاسقاً، فيرى العُرف أن الموضوع قد تغيَّر. وكما في قولك: «قلّد العالم»، فاذا صار جاهلاً فيكون الموضوع بنظرهم قد تبدّل وتغيَّر.
وقد يكون القيد عندهم من الحالات الطارئة على الموضوع بحيث اذا ذهب القيد بقي الموضوع، ولا يرونه قد تغيَّر وتبدَّل، كما في قولك: «إذا أردت أن تعرف المسألة فاسأل هذا الجالس»، فإن الجلوس بنظر العرف من الحالات الطارئة وليس من مقومات المضوع بحيث إذا صار قائماً لا يُسأل عن المسألة. وكذا غيرها من الحالات الطارئة على الموضوع.
وعليه ففي مقامنا هذا إذا شك في بقاء وجوب صلاة الجمعة مثلاً بعد زمن الحضور جرى الاستصحاب، لعدم كون الحضور والغيبة إلا من الحالات الطارئة على الموضوع، لا من القيود المقوِّمة له. وكذا إذا شك في بقاء نجاسة الماء المتغيِّر بعد زوال تغيِّره بنفسه، أو شك في بقاء طهارة المكلف بعد خروج المَذِي منه، جرى الاستصحاب فيهما لعدم كون التغيُّر وعدمه بالنسبة الى الماء، أو خروج المذي وعدمه بالنسبة الى المكلف، إلا من الحالات الطارئة لا من القيود المقوِّمة للموضوع، فلا مانع حينئذٍ من الاستصحاب لصدق الشك في البقاء.
وأما دليله الثاني: أن الأمور ثلاثة: بَيِّنٌ رشده، وبَيِّنٌ غَيُّهُ -أي مقطوع فيه ذلك، لا ريب فيه-، وما ليس هذا ولا ذاك، وبوجوب التوقف في الثالث.
ففيه، أولاً: أن الاخبار الآمرة بالتوقف عند الشبهة يحتمل فيها ثلاثة أمور. ذكرناها بالتفصيل عند القول بالاستدلال لوجوب الاحتياط فراجع فإنه مهم[1].
وثانياً: أنَّ الاستصحاب أصلٌ محرٍزٌ، حاكمٌ على باقي الأصول الشرعية، وواردٌ على الأصل العقلي فكيف يجب التوقف.
والخلاصة: أن ما ذكره هذا القائل ومن تبعه بإحسان لم يكتب له التوفيق.
نعم لا يجري الاستصحاب في الاحكام الكليّة، لا لما ذُكر من عدم بقاء الموضوع، بل لأن استصحاب الحكم المجعول معارَض باستصحاب عدم الجعل، لأن الشك في بقاء الحكم المجعول، يرجع للشك في دائرة المجعول سعةً وضيقاً من قبل الشارع المقدس، كما إذا شككنا في أن المجعول من قبل الشارع عند ملاقاة الماء للنجاسة هل هو النجاسة للماء القليل غير المُتَمّم كرّاً، أم أن المجعول مطلقاً يشمل ما لو تمم الماء كرّا فيكون الشك في السعة والضيق.
والشك في سعة المجعول وضيقه، يستلزم الشك في الموضوع، فإنّا لا ندري أن الموضوع للنجاسة هو الماء غير المتمم كرّاً، أو مطلقا، أي حتى المتمم كرّاً.
وعليه فإذا شككنا في بقاء نجاسة الماء المتَمّم كرّاً، فَلَنا يقينٌ متعلقٌ بالمجعول -وهو النجاسة- ويقينٌ متعلقٌ بعدم الجعل -أي عدم النجاسة في صدر الإسلام-، فبالنظر إلى المجعول يجري استصحاب النجاسة، لكونها متيقنة الحدوث مشكوكة البقاء، وبالنظر إلى الجعل يجري استصحاب عدم النجاسة، لكونه أيضاً متيقّناً، وذلك لليقين بعدم جعل النجاسة للماء القليل في صدر الإسلام، لا مطلقا ولا مقيدا بعدم التتميم، والقدر المتيقن منها إنما هو جعلها للقليل غير المتمم. أما جعلها مطلقا حتى للقليل المتمم فهو مشكوكٌ فيه، فنستصحب عدمه.
وعليه فتقع المعارضة بين استصحاب بقاء المجعول، واستصحاب عدم الجعل؛ وكذا الملكية فإذا شككنا في بقاء الملكية بعد رجوع أحد المتبايعين في المعاطاة، فباعتبار المجعول وهي الملكية يجري استصحاب بقاء الملكية، وباعتبار الجعل يجري استصحاب عدم الملكية.
والخلاصة الى هنا: أن السبب الرئيسي في عدم جريان الاستصحاب في الاحكام الكلية هو ما ذكرناه من المعارضة.
نعم هناك صورتين يصحّ فيهما استصحاب الحكم الكلي:
الصورة الأولى: وهي استصحاب عدم النسخ في الحكم الشرعي إذا شك في النسخ. بل في الواقع هناك تسالم على استصحابه حتى من المنكرين لحجية الاستصحاب مطلقاً. بل هو من ضرورة الدين على ما ذكره المحدث الاسترآبادي.
والإنصاف أن هذه الصورة خارجة عن محل الكلام -وهو الاستصحاب-، لأن المسلمين تسالموا على عدم النسخ في حال الشك فيه، ويكفينا في الحكم في المقام صحيحة زرارة قال: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الحلال والحرام فقال: حلال محمدٍ حلالٌ أبداً إلى يوم القيامة، وحرامه حرامٌ أبداً إلى يوم القيامة، لا يكون غيره ولا يجيء غيره، وقال: قال عليّ (عليه السلام): ما أحد ابتدع بدعةً إلا ترك بها سنةً»[2]. فإنّ هذه الصحيحة تشمل المقام ولسنا بحاجة للاستصحاب.
ثمّ إن مورد استصحاب عدم النسخ هو ما إذا علمنا بجعل الشارع لحكمٍ من الأحكام في الشريعة الإسلامية، كالجهاد مثلا، ثم شككنا في بقاء هذا الجعل في الشريعة وأن الجهاد لا زال مشرعاً من المولى أم ارتفع حكمه في الشريعة. فيستصحب عدم النسخ، والتعبير بالرفع مسامحة، وإلا فهو في الواقع دفعٌ لا رفعٌ.
وقد عرفنا النسخ سابقاً: بأنّه عبارة عن انتهاء الحكم بانتهاء أمَدِهِ، أي أن الحكم لم يُجعل من أوّل الأمر إلى الأبد، وإنما جُعل إلى فترة زمنية محدودة حسب اقتضاء المصلحة. فإنْ انتهى الأمَد، انتهى الحكم. ومن هنا كان التعبير بارتفاع الحكم بانتهاء أمَدِهِ تعبيراً مجازياً، إذ لا يوجد في الواقع رفع بل هو دفع.
نعم هو بحسب مقام الاثبات يكون رفعاً حيث ظاهر الأدلة ذلك، ومن هنا يتضح لك أن ارتفاع الحكم بارتفاع موضوعه لا يكون نسخاً، فإذا لم يوجد مستطيعٌ للحج في الخارج، لا يكون الوجوب فعلياً ويكون مرتفعاً عن المكلفين، ولكن هذا الحكم لا زال موجوداً في الشريعة الاسلامية ولم ينسلخ عن دفتر التشريع وكذا غيره من الأمثلة.
الصورة الثانية: أن ما ذكرناه من عدم جريان الاستصحاب في الحكم الكلي، إنما هو مختصٌ بالأحكام الإلزامية من الوجوب والحرمة؛ وأما غير الإلزامي فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه، والسرّ في ذلك يأتي في الدرس القادم، إن شاء الله تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] سنضيف هذا الدرس قريباً على الموقع.
[2] الكافي: ج1، ص58، ح19.
|