تقدم الكلام في المحاولات الأربعَ المتقدمة والإشكالات التي وردت عليها والجواب عن هذه الإشكالات.
أقول:
الانصاف في حل الإشكال وهو (صحة الفعل واستحقاق العقاب):
إن أصل هذا الإشكال مبنيٌّ على أمرين:
الأمر الأول: أن يكون العمل المأتي به حال الجهل صحيحاً ومجزياً.
الأمر الثاني: استحقاق الجاهل المقصر للعقاب، وأن استحقاقه له لأجل تفويت ما كان واجب عليه في حال الجهل.
وعليه: فكيف يجمع بين صحة العمل وإجزائه، والعقاب على ترك الواجب في حال الجهل، فان منعنا أحد الأمرين فيرتفع الإشكال.
والظاهر أنه: يمكن منع الأمر الثاني وهو استحقاقه للعقاب. لأن استحقاق للعقاب وعدمه على ترك الواجب ليس من المسائل الشرعية حتى يُدَّعى فيها الإجماع أو التسالم. بل هو من الأمور العقلية، فمع فرض صحة العمل المأتي به حال الجهل كما هو الصحيح لا يحكم العقل باستحقاق العقاب كما أنه لا يوجد ما يدل عليه فيما بأيدينا من الأدلة.
وعليه فيرتفع الاشكال من أساسه والله العالم.
هذا تمام الكلام في هذه المسألة. ثمَّ إنه بقي لأصالة البراءة شرطان.
قال صاحب الكفاية (رحمه الله): ثم إنه ذكر لأصل البراءة شرطان آخران:
أحدهما: أن لا يلزم من العمل بالبراءة إثبات حكم آخر.
ثانيهما: أن لا يلزم من جريانها ضرر على الغير. (انتهى كلامه)
ذكرنا سابقاً أنه يشترط في جريان البراءة الشرعية في الشبهة الحكمية الفحص قبل العمل بها وهناك بعض الشرائط لبعض الاعلام.
قال الشيخ الأعظم الأنصاري (رحمه الله): ذكر الفاضل التوني لأصل البراءة شروطا أُخر:
الشرط الأول: أن لا يكون إعمال الأصل موجباً لثبوت حكم شرعي من جهة أخرى، مثل أن يقال في أحد الإناءين المشتبهين: الأصل عدم وجوب الاجتناب عنه، فإنه يوجب الحكم بوجوب الاجتناب عن الآخر، أو عدم بلوغ الملاقي للنجاسة كراً، أو عدم تقدم الكرية -حيث يعلم بحدوثها- على ملاقاة النجاسة، فإن إعمال الأصول يوجب الاجتناب عن الإناء الآخر أو الملاقي أو الماء. (انتهى كلامه)
وتوضيح الشرط الأول:
يقول الفاضل التوني (رحمه الله): يشترط في جريان البراءة أن لا يلزم من جريانها إثبات حكمٍ آخر. وذكر (رحمه الله) مثالين:
المثال الأول: لو أنَّ عندنا إنائين يشتبه في كون أحدهما نجس، فلو أننا أجرينا البراءة في أحدهما (تخييراً أو تعييناً) فإنه يلزم من جريانها إثبات حكم شرعي آخر وهو وجوب الإجتناب عن الإناء الآخر.
المثال الثاني: لو كان عندنا ماء ولاقى نجاسة، وشككنا في حدوث الكرِّية، فلو أجرينا البراءة عن الكرِّية للزم ثبوت حكم آخر وهو نجاسة الماء.
ثم قال الشيخ الأعظم الأنصاري (رحمه الله):
الشرط الثاني: أن لا يتضرر بإعمالها مسلم، كما لو فتح إنسان قفص طائر فطار، أو حبس شاة فمات ولدها، أو أمسك رجلا فهربت دابته. فإن إعمال البراءة فيها يوجب تضرر المالك فيحتمل اندراجه في قاعدة الإتلاف، وعموم قوله (صلى الله عليه وآله): «لا ضرر ولا ضرار»، فإن المراد نفي الضرر من غير جبران بحسب الشرع، وإلا فالضرر غير منفي، فلا علم حينئذ -ولا ظن- بأن الواقعة غير منصوصة، فلا يتحقق شرط التمسك بالأصل من فقدان النص، بل يحصل القطع بتعلق حكم شرعي بالضار، ولكن لا يُعلم أنه مجرد التعزير أو الضمان أو هما معا، فينبغي له تحصيل العلم بالبراءة ولو بالصلح. (انتهى كلامه)
وتوضيح الشرط الثاني:
يقول الفاضل التوني (رحمه الله): يشترط في جريان البراءة أن لا يتضرر من جريانها مُسلِمٌ أو مَن بحكمه. كما لو فتح شخص قفصاً فيه طائر فطار الطائر، أو حبس الشاة فمات ولدها، فلو شكَّ في أنه يضمن أو لا وأجرى البراءة فيلزم من جريانها تضرر المسلم. وعليه فلا تجري البراءة.
أقول:
أما بالنسبة للشرط الأول:
فان كان مراد الفاضل التوني (رحمه الله) هو: أنَّ البراءة لا تثبت لوازمها العقلية والعادية والعرفية، فهو حق لا محيص عنه كما ذكرناه في اكثر من مناسبة فان اصل المثبت غير حجة. ولكن هذا لا يختص بالبرائة بل كل الأصول العملية لا تثبت لوازمها العقلية العادية والعرفية.
وان كان مراده غير ذلك: فان كلامه لا يتم على اطلاقه. فبعد الإستقراء يوجد عندنا أربع صور:
الصورة الأولى: أن لا يكون بين الحكمين علاقة وترابط في حدِّ انفسهما اصلاً، إلا انه حدث الترابط بينهما لجهةٍ خارجيةٍ كما في المثال المتقدم وهو العلم الاجمالي بنجاسة أحد الإنائين. فإنه لا ربط في الواقع بين طهارة كل منهما أو نجاستهما أو طهارة أحدهما و نجاسة الآخر. إلا أنه لما عملنا بنجاسة أحدهما فانه لا يمكن جريان الأصل النافي في كل منهما للزوم المخالفة العملية القطعية.
وأما جريان الأصل النافي في أحدهما فإنه وإن كان يوجب الاجتناب عن الآخر، إلا أنه لا ربط لها بجريان البراءة:
أما على مبنانا (كما هو الإنصاف): فالعلم الاجمالي علة تامَّة لوجوب الإجتناب عنهما، سواء جرت البراءة أو لم تجرِ.
وأما على مبنى السيد الخوئي (رحمه الله) وجماعة من الأعلام: حيث قالوا إنما يجب الإجتناب بعد تعارض الأصول وتساقطها، لأنه لامعنى لجريان الأصل في أحدهما لا بعينه، وجريان الأصل في أحدهما المعين ترجيح بلا مرجح، فجريان الأصل بأحدهما يعارضه جريان الأصل في الآخر فيتعارضان فيتنجز العلم الإجمالي. فأيضا لا يتم كلام الفاضل التوني.
نعم لو تنزلنا وسلمنا معه وفرضنا جريان الأصل في أحدهما فانه يوجب الاجتناب عن الاخر ولكن لا لأجل جريان البراءة في أحدهما، بل لأجل عدم الوقوع في المخالفة القطعية.
وعليه: فلا يكون كلام الفاضل التوني صحيحاً في هذه الصورة.
|