[خاتمة في شرائط الأصول العلمية: شرائط البراءة]
[جريان البراءة الشرعية في الشبهة الحكمية قبل الفحص]
الدليل الثالث المخرج عن القاعدة والموجب للفحص:
هو ما ذكره جماعة من الأعلام منهم صاحب الكفاية. حيث قال: «فالأولى الاستدلال للوجوب بما دلّ من الآيات والأخبار على وجوب التفقه والتعلّم والمؤاخذة على ترك التعلم في مقام الاعتذار عن عدم العمل بعدم العلم، بقوله تعالى كما في الخبر هلاّ تعلّمت فيقيّد بها أخبار البراءة لقوّة ظهورها في أنّ المؤاخذة والاحتجاج بترك التعلّم فيما لم يعلم، لا بترك العمل فيما علم وجوبه ولو اجمالاً، فلا مجال للتوفيق بحمل هذه الأخبار على ما إذا علم إجمالاً...». (انتهى كلامه).
أقول: أمّا الآيات الشريفة المستدلّ بها على وجوب التفقّه والتعلّم فهي:
آية النفر: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون﴾. وآية سؤال أهل الذكر: ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون﴾.
وأمّا الأخبار الدالّة على وجوب التفقه والتعلّم، والدالّة أيضاً على ذمّ ترك السؤال فهي كثيرة:
منها: مرسلة يونس عن بعض أصحابه، قال سئل أبو الحسن (عليه السّلام): «هل يسع الناس ترك المسألة عمّا يحتاجون إليه؟ فقال: لا»[i]. وهي ضعيفة بالإرسال.
ومنها: مرسلة أبي إسحاق السُبيعي عمّن حدثّه، قال سمعت أمير المؤمنين (عليه السّلام): «يقول: أيّها الناس اعلموا أنّ كمال الدّين طلب العلم والعمل به، ألا وإنّ طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال، إنّ المال مقسوم مضمون لكم، قد قسَّمه عادل بينكم، وضمنه وسيفي لكم، والعلم مخزون عند أهله، وقد أُمرتم بطلبه من أهله فاطلبوه»[ii]. وهي ضعيفة بالإرسال أيضاً.
ومنها: رواية علي بن أبي حمزة، قال سمعت أبا عبد الله (عليه السّلام) يقول: «تفقّهوا في الدِّين فإنّه من لم يتفقّه منكم في الدِّين فهو أعرابي إنّ الله يقول في كتابه: ﴿لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون ﴾»[iii]. وهي ضعيفة بعلي بن أبي حمزة البطائني.
ومنها: رواية أبان بن تغلب عن أبي عبد الله (عليه السّلام): «قال لوددت أنّ أصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط حتّى يتفقّهوا»[iv]. وهي ضعيفة، لأنّ محمد بن إسماعيل الذي يروي عنه الكليني ليس هو ابن بزيع الثقة، بل الظاهر أنّه البندقي النيشابوري المجهول.
ومنها: رواية عبد الرحمن بن زيد، عن أبيه عن أبي عبد الله (عليه السّلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «طلب العلم فريضة على كل مسلم ألا إنّ الله يحب بغاة العلم»[v]. وهي ضعيفة أيضاً بجهالة الحسن بن أبي الحسين الفارسي، وعبد الرحمن بن زيد وأبيه. وكذا غيرها من الروايات الكثيرة التي لا يبعد تواترها المعنوي.
ومن هنا، يتضح لك أنّه لسنا بحاجة للبحث عن السند.
ووجه الاستدلال بها وبالآيات الشريفة المتقدمة: هو أنّه لولا وجوب الفحص لم يكن وجه لإيجاب السؤال والذّم على تركه مع أنّ الشبهة بدوية.
وقد استدلّ أيضاً بالأخبار الدالّة على مؤاخذة الجاهل بفعل المعاصي من جهة ترك التفقه في الدين:
منها: حسنة محمد بن سكين وغيره عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال: «قيل له إنّ فلاناً أصابته جنابة وهو مجدور فغسّلوه فمات فقال: قتلوه، ألا سألوا؟! ألا يممّوه؟! إنّ شفاء العيّ السؤال»[vi]. والرواية حسنة، وقد رواها صاحب الوسائل عن محمد بن مسكين، ولكن الصحيح هو محمد بن سكين الثقة لا ابن مسكين المجهول. نعم، في الطبعات الحديثة للوسائل موجود محمد بن سكّين. ووجه الاستدلال: هو أنّ ذمّهم على فعل المعصية، وهي تغسيلهم إيّاه حتى أدّى إلى موته، إنّما هو لأجل ترك التفقه في الدين.
ومنها: معتبرة مسعدة بن زياد، قال: «كنت عند أبي عبد الله (عليه السّلام). فقال له رجل: بأبي أنت وأمّي، إنّي أدخل كنيفاً ولي جيران وعندهم جوار يتغنّين ويضربن بالعود فربّما أطلت الجلوس استماعاً منّي لهنّ، فقال (عليه السّلام): لا تفعل...إلى أن قال (عليه السّلام): قم فاغتسل وصلِ ما بدا لك فإنّك كنت مقيماً على أمر عظيم، ما كان أسوأ حالك لو متّ على ذلك... الحديث»[vii]. ووجه الاستدلال بها: هو أنّ الذمّ على إطالة الجلوس لأجل الاستماع إنّما هو لترك تعلّمه حرمة إطالة الجلوس لأجل استماع الغناء والموسيقى.
[i] الكافي ج1، باب فرض العلم ووجوب طلبه والحث عليه، ح3.
[ii] الكافي ج1، باب فرض العلم ووجوب طلبه والحث عليه ح4.
[iii] الكافي ج1، باب فرض طلب العلم والحثّ عليه، ح6.
[iv] الكافي ج1، باب فرض طلب العلم والحثّ عليه، ح8.
[v] الكافي ج1، باب فرض العلم ووجوب طلبه والحث عليه، ح1.
[vi] وسائل الشيعة، باب 5 من أبواب التيمم، ح1.
[vii] وسائل الشيعة، باب 18 من أبواب الأغسال المسنونة، ح1.
|