[قاعدة: الميسور لا يسقط بالمعسور]
[مدرك القاعدة ثلاث روايات]
[الرواية الأولى: فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم]
إن قلتَ: إنّ مورد الرواية وإن كان في الكلّي الذي له أفراد طولية، إلاّ أنّ مجرّد ذلك لا يكفي في تخصيصها بذلك بعد عموم الشيء في نفسه وشموله لكلّ من الكلّي والكلّ، فالمعنى إذا أمرتكم بشيء ذي أجزاء أو ذي أفراد فأتوا من تلك الأجزاء أو الأفراد بقدر ما استطعتم. قلتُ: قد أجاب جماعة عن ذلك أنّه لا يصحّ، لعدم الجامع بينهما، فإنّ لحاظ الأفراد يباين لحاظ الأجزاء، ولا يصحّ استعمال كلمة (من) في الأعمّ من الأجزاء والأفراد، وإن صحّ استعمال الشيء في الأعمّ من الكلّ والكلّي. وبناءً عليه، يتعيّن إرادة الكلّي بقرينة المورد.
أقول: يمكن تصوير الجامع بينهما بإرادة التبعيض من كلمة (من).
غاية الأمر تختلف مصاديق التبعيض باختلاف الموارد، فإنّ الفرد بعض الطبيعة باعتبار أنّ الكلّي الطبيعي موجود بوجود أفراده، كما أنّ الجزء بعض المركّب.
وعليه، لا مانع من إرادة ما يعمّ الكلّ والكلّي من الشيء المأمور به، حيث يمكن إرادة التبعيض من الكلّي أيضاً بلحاظ حصصه الموجودة في ضمن أفراده، فكلمة (من) في كلا الحالتين مستعملة في التبعيض.
هذا وقد ذكر الآغا ضياء الدين العراقي (رحمه الله): «أنّ الأولى في الإشكال على دلالة الرواية على المطلوب هو أن يقال: إنّ العموم المستفاد من الشيء في الرواية لكلّ من الكلّ والكلّي إنّما هو من جهة الاطلاق ومقدّمات الحكمة، وحيث إنّ من المقدمات انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب، فلا مجال للأخذ بإطلاقه في المقام، لوجود القدر المتيقن في مقام التخاطب وهو ما يقتضيه المورد من الكلّي الذي تحته أفراد، فإنّه مع وجود ذلك لا يبقى له ظهور في الاطلاق يعمّ الكل والكلّي حتى يصحّ التمسّك بظهوره لإثبات وجوب ما عدا الجزء المضطر إليه». (انتهى كلامه).
وفيه، ما ذكرناه في بحث المطلق والمقيّد: أنّ القدر في مقام التخاطب لا يضرّ بالاطلاق، خلافاً لصاحب الكفاية، حيث ذهب إلى أنّ من جملة مقدّمات الحكمة انتفاء القدر المتيقّن في مقام التخاطب، فوجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب مانع من انعقاد الاطلاق، لأنّ المورد الخاص يصلح أن يعتمد عليه المتكلم.
وقلنا في محله: إنّ القدر المتيقن لو كان مانعاً من انعقاد الاطلاق لانتفت أغلب الاطلاقات، فإنّ الخائض غمار الأخبار يعلم أنّ أغلبها جاء في مورد السؤال عن أمر خاص يشكّل قدراً متيقّناً في مقام التخاطب، فلو كان هذا مانعاً من الاطلاق للزم رفع اليد عن كلّ اطلاقات أجوبتهم (عليهم السّلام) عن هذه الأسئلة الخاصة. والله العالم.
[الرواية الثانية: ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه]
أما الرواية الثانية: ما في كتاب غوالي اللآلئ عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) أنّه قال: «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه»[i]f132.
وجه الاستدلال بها: هو أنّ المراد من الموصول الأعمّ من الكلّ والكلّي. وعليه، فتدلّ على ثبوت التكليف بالأجزاء الممكنة من المركّب، وعدم سقوطه بتعذّر بعض أجزائه أو شرائطه.
وقد نوقش في الرواية من جهتين، الأولى: من جهة السند، والأخرى: من جهة الدلالة.
أمّا من جهة السند، فهي ضعيفة بالارسال. وأمّا قضية الانجبار بعمل المشهور، فقد عرفت حاله فلا حاجة للإعادة.
وأمّا من جهة الدلالة، فقد نوقش فيها من أمرين:
الأمر الأول: أنّ لازم شمولها لكلّ من الكلّ والكلّي هو أن يكون قوله: «لا يترك» مستعملاً في الارشاد والمولوية معاً، لأنّه في الكلّي الذي تحته أفراد يكون الأمر بإتيان الميسور من أفراده ارشاديا محضاً، لاستقلال العقل بوجوب الاتيان بالأفراد الممكنة من الطبيعي وعدم سقوط وجوبها بسقوط الوجوب عن الأفراد المتعذرة.
وأمّا في الكلّ ذي الأجزاء يكون الأمر بإتيان الميسور من أجزائه مولوياً ناشئاً عن داعي البعث والتحريك، لأنّ ارتباطية التكليف في المركّب تقتضي سقوط الأمر عن الأجزاء الممكنة بتعذّر بعض أجزاء المركّب، وحيث لا جامع بينهما، فيلزم حينئذ استعمال اللفظ في أكثر من معنى، وهو غير جائز إلاّ أن يكون اللاحظ أحول العينين.
وفيه: أنّ صيغة الأمر ونحوها موضوعة لمصداق النسبة الإيقاعية بين المادّة والمخاطب، لا لمفهوم النسبة، لأنّ مفهوم النسبة معنى إسمي، والهيئة معنى حرفي. وعليه، فهي موضوعة لإيجاد المادّة من المخاطب، إلاّ أنّه تارةً يكون الداعي إليه هو التمنّي، وأخرى الترجّي، وثالثاً التهديد، ورابعاً البعث والتحريك، وهكذا...
وعليه، فالمولوية والارشادية إنّما يكونان من دواعي الإنشاء في مقام الاستعمال، فإنّه قد ينشأ المتكلّم بداعي البعث والتحريك، فيكون بعثاً حقيقياً، وقد ينشأ بداعي إرشاد، فيكون ارشادياً، وهكذا...
[i] غوالي اللئالي: ج4 ص58.
|