وأمّا المورد الثاني، ما إذا علم بالملاقاة، ثمّ حدث العلم الاجمالي بنجاسة الملاقى بالفتح أو الطرف الآخر، ولكن حال حدوث العلم الاجمالي كان الملاقي بالكسر مورداً للابتلاء، والملاقى بالفتح خارجاً عن مورد الابتلاء، ثمّ عاد إلى مورد الإبتلاء. ففي هذه الحالة يجب الاجتناب عن الملاقي بالكسر دون الملاقى بالفتح، لأنّه بناءً على الاقتضاء تقع المعارضة بين الأصل الجاري في الملاقي بالكسر وبين جريانه في الطرف الآخر، فيتساقطان، وبعد التساقط يجب الاجتناب عنهما. وأمّا الملاقى بالفتح، فلا يجري فيه الأصل لخروجه عن محلّ الابتلاء وعدم أثر عملي له، ومن المعلوم أنّه يشترط في صحة جريان الأصل أن يكون له أثر عملي وبدونه لا يجري.
نعم، إذا رجع إلى محل الابتلاء، فيجري فيه أصل الطهارة، لعدم المعارض له، لأنّ الأصل في الطرف الآخر قد سقط بالمعارضة مع الأصل الجاري في الملاقي بالكسر.
وأمّا على القول بعلّية العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية، فلا إشكال في وجوب الاجتناب عن الملاقي بالكسر، للعلم الاجمالي بالتكليف بينه وبين الطرف الآخر، وعدم ما يوجب منعه عن التأثير بعدما كان العلم الاجمالي السابق بين الملاقى بالفتح والطرف الآخر غير مؤثّر، لخروج بعض أطرافه عن محلّ الابتلاء.
ثمّ إنّه يشكل على القول بالاقتضاء بأنّ الملاقى بالفتح وإن كان خارجاً عن محلّ الابتلاء، إلاّ أنّ خروجه عن محلّ الابتلاء إنّما يمنع عن جريان الأصل فيه، بالنسبة إلى أثره غير المبتلى به من حرمة ارتكابه ووجوب الاجتناب عنه.
وأمّا بالنسبة إلى أثره المبتلى به فعلاً من طهارة ملاقيه أو نجاسته، فلا بأس بجريان الأصل فيه بلحاظ هذا الأثر، فإذا غسّل ثوب متنجّس بماء مع الغفلة عن طهارته ونجاسته، ثمّ خرج الماء عن محلّ الابتلاء، ثمّ شكّ في طهارته، فلا مانع من جريان أصالة الطهارة فيه، لترتيب الحكم بطهارة الثوب المغسول به.
وعليه، فنقول: لمّا كانت نجاسة الملاقي بالكسر من آثار نجاسة الملاقى بالفتح، فيجري الأصل في الملاقى بالفتح بلحاظ هذا الأثر، ولو في ظرف خروج الملاقى بالفتح عن محل الابتلاء بنفسه، ويتعارض مع الأصل الجاري في الطرف الآخر، وبعد سقوطهما تصل النوبة إلى الأصل الجاري في الملاقي بالكسر، فتجري فيه أصالة الطهارة لسقوط معارضها في المرتبة السابقة بالمعارضة مع الأصل الجاري في الملاقى بالفتح.
وعليه، فما ذكره صاحب الكفاية (رحمه الله) في هذا المورد لم يكتب له التوفيق.
وأمّا القسم الثالث، وهو الاجتناب عن الملاقي والملاقى بالفتح جميعاً، فمورده ما إذا كانت الملاقاة قبل العلم الاجمالي بوجود النجس بين الملاقى بالفتح والطرف الآخر، كما إذا علم أوّلاً بملاقاة ثوب للإناء الشرقي، ثمّ علم اجمالاً بإصابة النجس للإناء الشرقي أو الغربي قبل حصول الملاقات. ففي هذه الحالة يجب الاجتناب عن كلّ واحد من الثلاثة لوجوب الموافقة القطعية. وعليه، فتقدّم العلم بالملاقاة على العلم الاجمالي بنجاسة الملاقى بالفتح والطرف الآخر يجعل المتلاقيين معاً طرفاً من أطراف العلم الاجمالي، والمفروض عدم وجود المانع من منجّزية هذا العلم، لعدم تنجّز التكليف قبله بمنجّز آخر في بعض الأطراف، حتى لا يؤثّر هذا العلم الذي له أطراف ثلاثة في التنجيز.
والإنصاف: أنّ ما ذكره صاحب الكفاية في هذا القسم الثالث متين لا غبار عليه. والله العالم.
[التنبيه الخامس: هل العلم الاجمالي منجّز فيما إذا تعلّق بالأمور التدريجيّة]
وقبل الشروع في ذلك لا بدّ من التنبيه على أمر، وحاصله: إنّه لو فرضنا عدم منجّزية العلم الاجمالي في الموجودات التدريجيّة، فنرجع في كلّ شبهة إلى الأصل الجاري فيها. مثلاً في المعاملة الربوية، إذا شككنا فيها للشبهة المصداقية، فنرجع إلى أصالة الحلّ من حيث التكليف، وأصالة عدم النقل والانتقال من حيث الوضع، ولا يصحّ التمسّك بالعمومات -من أوفوا بالعقود، وأحلّ الله البيع- لإثبات النقل والانتقال، لخروج المعاملة الربوية عنها، ولا يجوز التمسّك بالعموم في الشبهات المصداقية، كما فيما نحن فيه، لأنّ المفروض العلم بوقوع معاملة ربوية في هذا اليوم أو هذا الشهر، والشكّ في أنّها تقع في أوّله أو آخره.
كذا لا يجوز الرجوع إلى أصالة الصحّة الجارية في العقود الحاكمة على أصالة عدم النقل والانتقال، لأنّ مورد أصالة الصحّة هو العقد الواقع المشكوك في صحّته وفساده، لا العقد الذي لم يقع بعد، كما في المقام، لأنّه قبل صدور المعاملة في أوّل النهار وآخره يشكّ في صحّتها وفسادها، والمرجع في مثل ذلك ليس إلاّ أصالة عدم النقل والانتقال، ولا ملازمة بين الحلّية التكليفية وصحّة المعاملة، لعدم كون الصحّة والفساد فيها مسبّباً عن الحلّية والحرمة التكليفية، ولذا لا تصحّ المعاملة الربوية من الناسي والجاهل القاصر مع عدم الحرمة التكليفية في حقّهما، فلا منافاة بين أصالة الحلّ من حيث التكليف، وأصالة الفساد من حيث الوضع.
|