[أصالة الاشتغال: تنبيهات العلم الإجمالي]
[التنبيه الثالث: في الشبهة غير المحصورة]
[الجهة الثانية: في حكم الشبهة غير المحصورة]
استدلّ القائلون بعدم وجوب الموافقة القطعية بأدلّة منها:
الدليل السادس: ما ذكره الميرزا النائيني (رحمه الله) من عدم حرمة المخالفة القطعية وعدم وجوب الموافقة القطعية حيث قال: «أمّا عدم حرمة المخالفة القطعية، فلأنّ المفروض عدم التمكن العادي منها. وأمّا عدم وجوب الموافقة القطعية، فلأنّ وجوبها فرع حرمة المخالفة القطعية، لأنّها هي الأصل في باب العلم الاجمالي، لأنّ وجوب الموافقة القطعية يتوقف على تعارض الأصول في الأطراف، وتعارضها فيها يتوقف على حرمة المخالفة القطعية ليلزم من جريانها في جميع الأطراف مخالفة عملية للتكليف المعلوم في البين، فإذا لم تحرم المخالفة القطعية كما هو المفروض لم يقع التعارض بين الأصول، ومع عدم التعارض لا تجب الموافقة القطعية.. ثمّ قال: ما ذكرنا في وجه عدم وجوب الموافقة القطعية إنّما يختصّ بالشبهات التحريمية، لأنّها هي التي لا يمكن المخالفة القطعية فيها، وأمّا الشبهات الوجوبية فلا يتم فيها ذلك، لأنّه يمكن المخالفة القطعية فيها بترك جميع الأطراف، وحينئذٍ لا بدّ من القول بتبعيض الاحتياط ووجوب الموافقة الاحتمالية في الشبهات الوجوبية. وفيه أنّ ما ذكره من تعليل عدم وجوب الموافقة القطعية بعدم تعارض الأصول في الأطراف... إلخ». (انتهى كلامه).
وفيه إشكالان:
الاشكال الأوّل: أنّه يرد مثله في الشبهة المحصورة في فرض عدم تمكّن المكلّف من المخالفة القطعية بالجمع بين الأطراف، كما لو علم بخمرية أحد المائعين، ولم يتمكّن إلاّ من شرب أحدهما، فإنّه مع عدم التمكّن من المخالفة القطعية لا تتعارض الأصول، ومع عدم تعارضها لا تجب الموافقة القطعية، فلا بدّ من المصير حينئذٍ إلى جواز ارتكاب أحدهما، مع أنّه لا يظن الالتزام به من أحد من الأعلام.
الاشكال الثاني: أنّ ما ذكره مبنيّ على القول باقتضاء العلم الاجمالي للموافقة القطعية.
وأمّا على المبنى الصحيح الذي ذكرناه من أنّ العلم الاجمالي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية، وأنّه مانع من جريان الأصل النافي للتكليف ولو في بعض الأطراف بلا معارض، فلا يتمّ ما ذكره، لأنّ مجرّد عدم التمكّن من المخالفة القطعية بالجمع بين المحتملات لا يقتضي سقوط العلم عن التأثير بالنسبة إلى الموافقة القطعية مع التمكّن منها بترك جميع الأطراف، كما لا يخفى.
والذي يهوّن الخطب في المقام أنّ تحديد الضابطة للشبهة غير المحصورة بما ذكره (رحمه الله) لم يكتب له التوفيق، فلا تصل النوبة إلى حكمها.
والخلاصة في المقام: إنّ ما ذكرناه هو المتعيّن لكون العلم الاجمالي علّة تامّة حتى بالنسبة إلى الموافقة القطعية، فيستحيل الترخيص في بعض الأطراف، لمنافاته لحكم العقل تنجيزياً بلزوم الخروج عن العهدة، ومقتضى ذلك عدم جواز المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية، إلاّ إذا لزم أحد العناوين المتقدّمة من العسر والحرج والخروج عن محلّ الابتلاء والاضطرار، ونحو ذلك ممّا تقدم تفصيله.
ثمّ إنّه ينبغي التنبيه على ثلاثة أمور:
الامر الأوّل: إذا شكّ في كون الشبهة غير محصورة بناءً على مشرب القوم من ترتيب الأثر على الشبهة غير المحصورة فهل تجب الموافقة القطعية بترك التصرف في جميع الأطراف أم لا؟
والإنصاف: هو إلحاق صورة الشكّ في الحصر بالمحصور في وجوب الموافقة القطعية، لا سيما على مبنى الشيخ النائيني (رحمه الله) في تحديد مفهوم الشبهة غير المحصورة، لرجوع الشكّ حينئذٍ إلى الشكّ في القدرة مع العلم بالخطاب ووجود الملاك، فلا بدّ من الاحتياط لاستقلال العقل في مثله بلزوم الجري على ما يقتضيه العلم وعدم الاعتناء باحتمال العجز.
وإن شئت فقل: إنّنا نعلم بتعلّق التكليف بأحد الأطراف وإمكان الابتلاء به، فيجب الجري على ما يقتضيه العلم إلى أن يثبت المانع من كون الشبهة غير محصورة.
الامر الثاني: إذا سقط العلم الاجمالي عن التأثير في أطراف الشبهة غير المحصورة، فهل يفرض العلم كعدمه، فيجري حكم الشكّ في كلّ واحد من الأطراف، فيرجع إلى قاعدة الاشتغال فيما إذا كان الشكّ في نفسه مورداً لها، كما إذا كان المعلوم بالاجمال المردّد بين الأطراف غير المحصورة من الأموال والدماء والفروج، فإنّه لا يجوز الاقتحام في الشبهات البدوية في هذه الأبواب الثلاثة، كما هو المشهور بين الأعلام.
ولكن ذكرنا في أكثر من مناسبة، أنّه لا دليل على وجوب الاحتياط في هذه الأمور الثلاثة، وإن كان لا ينبغي تركه أو يكون الشكّ، في كلّ واحد من الأطراف أيضاً بمنزلة العدم، فلا يرجع إلى قاعدة الاشتغال أصلاً، لا من جهة العلم الاجمالي ولا من جهة الشك.
وعلى ذلك يبنى جواز الوضوء من الأواني غير المحصورة عند العلم الاجمالي بإضافة أحدها، فإنّه لو قلنا إنّ الشكّ في كلّ واحد من الأطراف بمنزلة العدم، فيجوز الوضوء من كلّ إناء، لأنّه يكون في حكم الماء المقطوع بإطلاقه.
وإن قلنا إنّه ليس بمنزلة العدم وإنّما يفرض العلم كعدمه فقط، فلا يجوز الوضوء من كلّ إناء، لأنّه يكون كلّ إناء مشكوك الاطلاق والإضافة، ولا يجوز التوضىء به، لعدم إحراز الشرط في صحّة الوضوء من إطلاق الماء.
ولا يخفى، أنّه على مبنى الشيخ الأنصاري (رحمه الله) من كون الملاك في عدم التنجيز كون الاحتمال موهوماً لا يعتني به العقلاء، فالشكّ في مفروض المثال بمنزلة العدم، فلا يعتنى باحتمال كون المتوضا به مضافاً.
وأمّا على مبنى الشيخ النائيني (رحمه الله) فيقول المقرر الشيخ محمد علي الكاظمي (رحمه الله): «كان شيخنا الأستاذ مدّ ظلّه يميل إلى سقوط حكم الشبهة أيضاً». (انتهى كلامه).
وعليه، فيكون موافقاً في الرأي للشيخ الأنصاري (رحمه الله) من هذه الجهة. والله العالم.
الامر الثالث: شبهة الكثير في الكثير، وهي ما لو كانت الشبهة في نفسها كثيرة، وكان المعلوم بالاجمال في البين أيضاً كثيراً، كما لو علم بوجود مائة شاة موطوءة في ضمن ألف شاة، حيث إنّ نسبة المعلوم إليها هي نسبة الواحد إلى العشرة، فهل حكمها حكم الشبهة المحصورة أم لا؟
والإنصاف: أنّه يختلف الحال باختلاف المباني:
فعلى مسلك الشيخ الأنصاري (رحمه الله) من أنّ الملاك في عدم التنجيز كون احتمال التكليف موهوماً لا يعتني به العقلاء، كان العلم الاجمالي في المقام منجّزاً، لأنّ احتمال التكليف في كلّ واحد من الأطراف من قبيل تردّد الواحد في العشرة، ومثله لا يعدّ موهوماً، بل هو في الحقيقة من أفراد الشبهة المحصورة.
وكذا الحال على مسلك الآغا ضياء الدين العراقي.
وأمّا على مسلك الميرزا النائيني (رحمه الله) من كون الضابطة في الشبهة غير المحصورة بلوغ الأطراف حدّاً يوجب عدم التمكن العادي من الجمع بين المحتملات في الاستعمال، فيكون حكمها في المقام حكم الشبهة غير المحصورة، لعدم التمكّن من الجمع بين المحتملات في الاستعمال، وإذا لم يمكن المخالفة القطعية فلا تجب الموافقة القطعية، لأنّها متفرعة عليها. والله العالم.
|