الأمر الثاني: إنّ الرفع فيما لا يعلمون يغاير الرفع في البقيّة، فإنّ الرفع فيما لا يعلمون رفع ظاهري ينتج عدم وجوب الاحتياط في موارد الشك والشبهات، ولا يمس الواقع، لما عرفت أنّ الأحكام الشرعية مشتركة بين العالم والجاهل. وبالجملة، فإنّ الرفع فيما لا يعلمون بمعنى دفع مقتضيات الأحكام في تأثيرها لإيجاب الاحتياط. وأمّا الرفع في البقيّة، فهو رفع واقعي ينتج نتيجة التخصيص الواقعي.
وتوضيحه: إنّ مقتضى عموم أدلّة الأحكام الواقعية عدم دخل الخطأ والنسيان والاضطرار والإكراه ونحوها في ترتّبها على موضوعاتها، فإنّ مقتضى عموم قوله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا﴾، وقوله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ﴾، هو ثبوت القطع والجلد على من أكره على السرقة والزنا، أو اضطر إليهما. ومقتضى حديث الرفع هو اختصاص الأحكام بغير صورة الخطأ والنسيان والإكراه والاضطرار وما لا يطيقون. وعليه، فلا قطع ولا جلد على من أكره على السرقة والزنا.
وذكرنا سابقاً، أنّ الرفع بمعنى الدفع، فيكون حاصل المعنى: أنّ مقتضيات الأحكام الواقعية، وإن كانت تقتضي ترتّب الأحكام على موضوعاتها مطلقاً من غير دخل للخطأ والنسيان في ذلك، إلا أنّ الشارع دفع تلك المقتضيات عن تأثيرها في ترتّب الحكم على الموضوع الذي عرض عليه الخطأ والنسيان والإكراه ونحو ذلك، فلا حكم مع عروض هذه الحالات، فتكون النتيجة تخصيص الأحكام الواقعية بالموارد التي لم تطرأ عليها هذه الحالات.
ثمّ لا يخفى عليك، أنّ حديث الرفع يكون حاكماً على أدلّة الأحكام الواقعية، فلا تلاحظ النسبة بينهما، كما لا تلاحظ النسبة بين أدلّة الأحكام الواقعية وبين ما دلّ على نفي الضرر والعسر والحرج، ولا فرق بين أدلّة نفي الضرر والعسر والحرج، وبين دليل رفع الاضطرار والإكراه ونحو ذلك، إلاّ في أنّ الحكومة في أدلّة نفي الضرر والعسر والحرج، إنّما تكون باعتبار عقد الحمل، حيث إنّ الضرر والعسر والحرج من العناوين الطارئة على نفس الأحكام، فإنّ الحكم قد يكون ضررياً أو حرجياً، وقد لا يكون. وفي دليل رفع الإكراه والاضطرار وغير ذلك، إنّما تكون باعتبار عقد الوضع، فإنّه لا يمكن طروّ الإكراه والاضطرار والخطأ والنسيان على نفس الأحكام، بل إنّما تعرض موضوعاتها ومتعلّقاتها، فحديث الرفع يوجب تضييق دائرة موضوعات الأحكام نظير قوله (عليه السّلام): «لا شكّ لكثير الشكّ»، ونحو ذلك، ممّا يكون أحد الدليلين متكفّلاً لما أريد من عقد الوضع. وعليه، فنتيجة كلّ حكومة هي التخصيص.
ثمّ إنّه يترتّب على كون الرفع فيما لا يعلمون رفعاً ظاهرياً إذا شككنا في جزئية السورة في الصلاة، وأنّها واجبة أم لا، ولم نعثر على دليل يدلّ على وجوبها، فبنينا على عدم الوجوب لحديث الرفع، ثمّ ظهر لنا الخلاف، وعثرنا على ما يدلّ على الجزئية، فلا يجوز حينئذٍ الاكتفاء بالصلاة الفاقدة للسورة مثلاً، لثبوت الحكم الواقعي من أوّل الأمر. وعليه، فلا بدّ من التماس دليل آخر يدلّ على الصحّة، كصحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السّلام) أنّه قال: «لا تعاد الصلاة إلا من خمسة: الطهور، والوقت، والقبلة، والركوع، والسجود، ثمّ قال: القراءة سنّة، والتشهد سنّة، ولا تنقض السنّة الفريضة»، حيث لم تكن السورة من الخمس المستثناة.
وهذا بخلاف الرفع في البقيّة، فإنّ الرفع فيها رفع واقعي، فالمأتيّ به حال الإكراه والاضطرار وغير ذلك يكون مجزياً، ولا موجب للإعادة. والله العالم.
الأمر الثالث: إنّ حديث الرفع مختصّ بما يكون في رفعه منّة وتوسعة على المكلّفين، فالأثر الذي يلزم من رفعه التضييق عليهم لا يشمله الحديث. وعليه، فلا يرتفع به ضمان الاتلاف المتحقق بالإضرار أو الإكراه، لأنّ رفعه خلاف الامتنان بالنسبة إلى المالك، وإن كان فيه منّة على المكلّف، لأنّ الحديث الشريف ظاهر في الامتنان على الأمّة، أي على جميع الأمّة، لا على بعضٍ دون بعض.
ومن هنا قال الشيخ الأعظم (رحمه الله): «واعلم أيضاً أنّه لو حكمنا بعموم الرفع لجميع الآثار، فلا يبعد اختصاصه بما لا يكون في رفعه ما ينافي الامتنان على الأمّة، كما اذا استلزم اضرار المسلم، فإتلاف المال المحترم نسياناً أو خطأً لا يرتفع معه الضمان، وكذلك الاضرار بمسلم لدفع الضرر عن نفسه لا يدخل في عموم ما اضطروا إليه، إذ لا امتنان في رفع الأثر عن الفاعل بإضرار الغير، فليس الاضرار بالغير نظير ساير المحرمات الإلهية المسوغة بالفتح لدفع الضرر... إلخ». (انتهى كلامه).
ثمّ لا يخفى عليك أيضاً، أنّه لا يرتفع بحديث الرفع صحّة بيع المضّطر، لأنّ رفع الصحّة عن المعاملة التي اضطر إليها المكلّف لقوت نفسه وعياله خلاف الامتنان. والله العالم.
الأمر الرابع: إنّ المرفوع بحديث الرفع هو الآثار الشرعية المترتبة على الفعل بما هو هو، وبعنوانه الأوّلي، فإنّها ترتفع عند طروّ الخطأ والنسيان والإكراه وغيرها، فهذه العناوين رافعة لتلك الآثار الشرعية.
وأمّا الآثار المترتبة على نفس تلك العناوين الثانوية -كوجوب الكفّارة المترتبة على الخطأ في القتل، وهي مرتبة: يجب أوّلاً عتق رقبة، فإن عجز صام شهرين متتابعين، فإن عجز أطعم ستين مسكيناً. وأمّا كفارة قتل المؤمن عمداً وظلماً، فهي كفارة جمع: وهي عتق رقبة وصيام شهرين متتابعين وإطعام ستين مسكيناً. وكذا وجوب سجدتي السهو المترتب على النسيان في بعض أجزاء الصلاة- فلا ترتفع بحديث الرفع، لأنّ الحكم إذا كان ثابتاً للموضوع بعنوانه الثانوي، وهو تقييده بالخطأ أو النسيان ونحوهما ممّا ذكر في الحديث الشريف، فلا يعقل ارتفاعه بحديث الرفع، إذ المفروض أنّ عروض هذا العنوان الثانوي المذكور في الحديث الشريف هو العلّة لثبوت الحكم لموضوعه، فكيف يكون نفس هذا العنوان علّة لرفعه، إذ ما يكون موجباً لثبوت حكم لا يعقل أن يكون موجباً لارتفاعه.
والخلاصة: إنّ المرفوع بحديث الرفع، هو الأثر المترتب على نفس الفعل بعنوانه الأوّلي، أي لا بشرط عن طروّ العناوين المذكورة. والله العالم.
|