هذا، وقدِ استُدل لعدم السقوط بعدَّة أدلَّةٍ:
منها: خبر الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السلام في حديث «قال: وإنَّما صارت العتمة مقصورةً، وليس تُتْرَك ركعتاها (ركعتيها)، لأنَّ الركعتين ليستا من الخمسين، وإنَّما هي زيادة في الخمسين تطوعاً، ليتمّ بهما بدل كلّ ركعة من الفريضة ركعتين من التطوع»[i]f71.
وفيه أوَّلاً: أنه ضعيف، لأن في السند عبد الواحد بن محمد بن عبدوس، وعليّ بن محمّد بن قتيبة، وهما غير موثَّقين، وكونهما من مشايخ الإجازة لا يدلّ على التوثيق كما عرفت، كما أنَّ توثيق العلَّامة لابن قتيبة لا ينفع، لأنَّ توثيقات المتأخِّرين مبنية على الحدس،كما ذكرناه في أكثر من مناسبة، فلا تكون توثيقاتهم مشمولةً لأدلَّة حجيّة خبر الواحد.
وثانياً: مع قطع النظر عما ذكرناه : فإنَّ المشهور أعرض عنه، بل الكلّ، إلاَّ من شذّ وندر.
ولكن عرفت فيما سبق أنّ إعراض المشهور عن روايةٍ لا يوجب وهنها، نعم لو ثبت إعراض الكلّ لكان ذلك موجباً لوهنها.
وأمَّا تقوية المصنِّف له في الذكرى فلا يفيد، لاسيَّما أنّه قال بعد ذلك: «إلاَّ أن ينعقد الإجماع على خلافه»، وهو مشعر بنوعِ ترددٍ فيه.
ومنها: خبر رجاء بن أبي الضحَّاك عن الرضا عليه السلام المشتمل على أحكام كثيرة مفتىً بها عند الفقهاء كما قيل، حيث ورد فيه: «أنَّه كان يصلِّي الوتيرة في السفر».
وفيه أوّلاً: أنَّ الموجود في نسخة العيون خلافه، والرواية هكذا: «عن الرضا عليه السلام أنَّه كان في السفر يصلِّي فرائضه ركعتَيْن ركعتَيْن، إلاَّ المغرب فإنَّه كان يصلِّيها ثلاثاً، ولا يدع نافلتها، ولا يدع صلاة الليل والشفع والوتر، وركعتي الفجر، في سفر، ولا حضر، وكان لا يصلِّي من نوافل النَّهار في السفر شيئاً»[ii]f72.
وثانياً: أنَّه ضعيف بعدَّة أشخاص.
ومنها: قاعدة التسامح في أدلَّة السنن، ولا يعارضها ما دل على السقوط، إذ به لا يخرج المورد عن صدق كونه مما بلغ عليه الثواب.
وفيه: أنَّ أدلَّة: «من بلغ» لا يُستفاد منها التسامح في أدلَّة السنن، بل هي إرشاد إلى حُسْن الانقياد، كما ذكرنا ذلك في مباحث علم الأصول.
وأمَّا ما ذكره صاحب الرياض من أنَّ التسامح في المقام ممنوع، حيث قال: «والاحتياط يقتضي الترك إن كان المراد بالسقوط التحريم، كما هو ظاهر النصوص والفتاوى، وصريح الشيخ في كتابي الحديث عدم الاستحباب، فيكون فعله بقصد القربة تشريعاً محرماً، ومنه يظهر ما في الاستدلال لعدم السقوط بالتسامح في أدلّة السنن، إذ هو عند من يقول به يثبت حيث لا يحتمل التحريم، وإلاّ فلا تسامح قولاً واحداً».
ففيه: أنَّ الذي يمنع التسامح على القول به هو احتمال الحرمة الذاتيَّة، لا الحرمة التشريعيَّة، وإلاَّ فلا ينفك المستحب المتسامح فيه عن احتمالها الذي لا يلتفت إليه إلاَّ بعد عموم «من بلغه».
ومنها: عدَّة من الأخبار المتضمنة: أنَّ مَنْ كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يبيتنّ إلاَّ بوتر، كما في صحيح زرارة «قال: قال أبو جعفر عليه السلام: مَنْ كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يبيتن إلاَّ بوتر»[iii]f73، والمراد بالوتر: الوتيرة، كما هو المعروف بين الأعلام.
ويؤيِّده: ما ورد في رواية أبي بصير المتقدِّمة عن أبي عبد الله عليه السلام «قال: مَنْ كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يبيتنّ إلاَّ بوتر، قال: قلت: تعني: الركعتين بعد العشاء الآخرة؟ قال: نعم، إنَّهما بركعة، فمَنْ صلاّهما، ثمَّ حدث به حدث مات على وتر، فإن لم يحدث به حدث الموت يصلِّي الوتر في آخر اللّيل...»[iv]f74، وإنَّما جعلناها مؤيدة لأنَّها ضعيفة بابن أبي حمزة البطائني، وبغيره أيضاً.
وجه الاستدلال بهذه الأخبار: أنَّها دالَّة بإطلاقها على أنَّ الوتيرة غير ساقطة أبداً، لا في حضرٍ، ولا سفرٍ.
والروايات المتقدِّمة الدَّالة على سقوط النوافل في السفر دالَّة بإطلاقها على سقوط الوتيرة أيضاً، فتقع المعارضة بين هذه الروايات والروايات المتقدِّمة، والنسبة بينهما: عموم من وجه.
والإنصاف: أنَّ هذه الأخبار مرجّحة على تلك الأخبار المتقدّمة المستدلّ بها على السقوط، لأنَّ مورد تلك الأخبار الدّالة على أنّه لا صلاة قبل الركعتين، ولا بعدهما هو ما كان نافلةً للصّلاة المقصورة الساقطة في السفر، لا ما كان نافلةً باستقلالها، ولم يثبت أنّ الوتيرة هي نافلة العشاء الآخرة، وأنَّها من الرواتب، بل الظاهر كونها نافلةً مستقلّةً يُؤتَى بها لأجل إتمام كون النافلة ضِعف الفريضة، كما تشير موثَّقة سليمان بن خالد المتقدِّمة، حيث ورد فيها: «ركعتان بعد العشاء الآخرة، يقرأ فيهما مائة آية قائماً، أو قاعداً، والقيام أفضل، ولا تعدّهما من الخمسين»[v]f75.
وعليه، فلا تشملها الأخبار المتقدّمة الدّالة على أنّه لا شيء قبل الركعتين، ولا بعدهما.
والخلاصة: أنّ الوتيرة لا تسقط في السفر كسائر النوافل الليليّة.
نعم، الأحوط الإتيان بها برجاء المطلوبية، والله العالم.
[i] الوسائل باب 29 من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ح3.
[ii] الوسائل باب 21 من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ح8.
[iii] الوسائل باب 29 من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ح1.
[iv] الوسائل باب 29 من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ح8.
[v] الوسائل باب 13 من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ح16.
|